موريتانيا تحقق الاكتفاء الذاتي من زراعة الكذب..!

تعاقب على وزارة الزراعة خلال السنوات الأربع الماضية أربعة وزراء، منهم من لم يمكث إلا أشهرا محدودة، فما الذي يعنيه ذلك؟ وما مصداقية الحملة الحكومية حول قرب تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء؟

 

إذا كان للتغييرات المتسارعة لوزراء الزراعة في بلادنا من مغزى فهو إدراك نخبتنا الحاكمة للفشل المزمن للسياسات المتبعة في المجال الزراعي، وهي أهم إشارة قد تبعث على الأمل، لأن إدراك خطورة وضعنا البائس في المجال الزراعي أهم شرط لمحاولة إنقاذ موقفنا.

 

فإنتاج موريتانيا من الحبوب لا يتجاوز نحو 4% من إنتاج مالي (موسم 2018 - 2019) و12% من إنتاج السنغال، حسب الأرقام الرسمية، مما نتج عنه ارتفاع فاتورة وارداتنا من المواد الغذائية إلى نحو 296.000.000.000 أوقية قديمة حسب أرقام مكتب الإحصاء الحكومي لسنة 2020، وهو ما يمثل نحو 46% من الميزانية العامة للدولة..!

 

وأخشى ما أخشاه أن يؤدي استمرار فشلنا الزراعي، وإصرارنا على الاقتراض لاستيراد غذائنا إلى تهديد وجودي للدولة الموريتانية والسلم الاجتماعي فيها.

ولن تكون تلك، إذا وقعت – لا قدر الله - أول مرة تختفي فيها دول وحضارات بسبب فشل السياسات الزارعية الذي أدى إلى عجز الأرض عن إطعام أهلها.

 

فأقوى الحضارات في الأمريكيتين، حضارة المايا، انهارت، كما يقول الباحثون، بعد أن تراجعت محاصيل الأرض بشكل حاد بسبب استمرار المايا في زراعة الأرض بمحصول وحيد، هو الذرة التي أفقرت الأرض سنة بعد أخرى حتى انتشرت المجاعة بين القوم، كما هو واضح من الدراسات التي أجراها الباحثون على الجثث في مقابرهم.

 

كما أن الحضارة البابلية في العراق انهارت بسبب سياسة زراعية فاشلة، أدت إلى عجز الأرض عن إطعام أهلها، لأن البابليين، كما يقول الباحثون، كانوا يروون المزارع من دون نظام لصرف مياه الري الزائدة خارج المزارع مما أدى إلى تراكم الأملاح في الأرض وتراجع محاصيلها كما هو معروف في علوم الزراعة.

 

والغريب أن كلا الخطأين اللذين أديان إلى انهيار هاتين الحضارتين الراقيتين في أمريكا والعراق يكرران اليوم حرفيا من قبل هنود الزراعة المعاصرين، الموريتانيين، في سهل شمامة.

 

فالمزارع في شمامه ليست مزودة بأي نظام لصرف المياه، كما أن الأرز هو المحصول الوحيد الذي يزرع في هذه المزارع من دون دورة زراعية.

 

ويعرف المزارعون القدماء في شمامة أن المحصول الذي كانوا يحصلون عليه بسهولة من أراضيهم، قبل عقود، لم يعودوا يحصلون عليه بسبب تدهور خصوبة الأرض وارتفاع ملوحتها.

 

لكن هل تترك المعطيات المحبطة لإنتاجنا الزراعي فسحة من الأمل تسمح بالتعاطي الإيجابي مع الخطاب الحكومي الحالي المركز على تحقيق السيادة الغذائية؟

 

لا شك أن الزيادة الملحوظة في ميزانية الزراعية منذ العام الماضي تعتبر مؤشرا إيجابيا. لكن التجارب علمتنا ألا ننظر إلى الخطاب الحكومي الرسمي، وإنما ننظر إلى ما يتم إنجازه على الأرض.

 

فالحكومة أعلنت سنة 2012 استراتيجية للزراعة ترمي إلى تحقيق قدر كبير من الاكتفاء الذاتي في الإنتاج الزراعي. لكننا لم نلمس على الأرض أي إجراءات أو نتائج تدل على وضع هذه الاستراتيجية موضع التنفيذ.

 

كما وضعت الحكومة، سنة 2015 خطة عشرية للزراعة، تبلغ تكلفتها أكثر من 340.000.000.000 أوقية قديمة، كانت ترمي إلى تحقيق زيادة متسارعة في الإنتاج الزراعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأرز والتمور والسكر على التوالي بنسبة 115% و120% و86%. كما تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح والبصل والبطاطس والحبوب التقليدية بنسة 60%.

وتنص الخطة على زيادة سنوية للمساحة المزروعة من القمح حتى تصل إلى نحو 40.000 هكتار.

 

لكن لا القمح ولا السكر زرعا، ولا محصولا الأرز والتمور رفعا. بل إننا في شمامه لم نر أي إجراء يدل على تنفيذ هذه الخطة ولم نلحظ لها أي نتائج على الأرض، بل إن الإجراء الوحيد الذي كان مصاحبا لهذه الخطة هو إجراء معاكس لأهدافها، قضى في حريف سنة 2015 برفع مفاجئ ليد الحكومة عن تسويق محصول الأرز المحلي مما أدى إلى انهيار سريع للأرز المحلي كبد المزارعين خسائر فادحة.

 

وكان من نتائج هذا الإجراء غير المدروس تقلص المساحات المزروعة وتراجع المحصول خلال السنوات التالية.

 

وقد أجهدت وزارة الزراعة مفاعلات إنتاج الكذب لديها للتغطية على انهيار محصول الأرز الذي كان وصل ارتفاعه إلى رقم قياسي في الموسم الزراعي السابق للقرار موسم 2014 - 2015 حيث بلغ 293000 طن من الأرز الخام حسب الأرقام الرسمية.

 

وللأسف فقد صمم نظامنا لتقييم الحملات الزراعية بطريقة تسمح لمسؤولي وزارة الزراعة والحكومة بالإفلات من عواقب سيء أعمالهم بكذبة، ذلك أن من يتولى تقييم نتائج الحملات الزراعية هم مسؤولو وزارة الزراعة المكلفون إذا بتقييم أعمالهم..!

 

(في مالي تقدر محصول الحملات الزراعية خمس جهات مختلفة منها ثلاث دولية).

 

فهل سمعتم قط عن حملة أرز كان المحصول فيها متدنيا، برغم كثرة الحملات الكارثية التي عانى منها المزارعون في شمامه، وأثقلت الديون كواهلهم؟

 

وإذا كانت استراتيجية الحكومة الزراعية، وخطتها العشرية، مرتا من دون أن نرى لهما نتائج على الأرض، فهل ستكون الخطط الحكومية الحالية مجرد رفع لمستوى جرعة الكذب في الخطاب الرسمي، أم أنها ستحمل جديدا يحول دفة سفينة تايتانيك الموريتانية عن مسار جبل الجليد؟

 

يحتاج الإنسان دائما إلى فسحة أمل، تحفظ له توازنه النفسي أمام مصاعب الحياة المتعددة، لكن أكثر ما يقلقني، وأنا أحاول التشبث بالأمل، أن أبرز العوامل الأساسية التي أدت إلى فشلنا الزراعي المزمن، الذي جعل منا دولة نشازا في غرب إفريقيا ما تزال كما هي.

 

فما زلنا نخوض الزراعة من دون بذور مناسبة، ولا تمويل ولا تأمين ولا دعم حكومي، كما أن الميكنة الزراعية شبه غائبة عن زراعتنا. فهي معدومة نهائيا في الزراعة المطرية، ضئيلة في الزراعة المروية. فأغلب الآليات المحدودة الموجودة بشمامه انتهى عمرها الافتراضي منذ سنوات كثيرة.

 

وقلة الآليات وتهالكها كانا وراء انهيار محصول الأرز في عدد كبير من الحملات بسبب تأخر البذر الناتج عن تأخر عمليات الحرث أو بسبب تأخر الحصاد الناتج عن قلة الحاصدات وتهالكها.

 

كما أن أكثر من 90% من الأراضي المزروعة في شمامه ما تزال غير مستصلحة، لأن انعدام التمويل أجبر المزارعين على الاكتفاء بعمل قنوات وأكتاف ري أقرب إلى الطرق البدائية إذ ليس بإمكانهم القيام باستصلاحات سليمة مكلفة من دون تمويل متوسط أو طويل المدى.

 

والنتيجة الحتمية لذلك بقاء الزراعة مهنة طاردة، تأكل أبناءها. كما أن مهندسي الفشل الزراعي الذين مردوا على الكذب ما زالوا يحتلون المواقع القيادية في الوزارة الوصية، ويطوقون كل وزير جديد ليصرفوا توجهه من زراعة الأرض إلى زراعة الكذب، مجال نجاحهم الوحيد. وما زالت منظومة زراعة الكذب التي شيدوها تعمل في ظل غياب تام للمحاسبة، وسيادة كاملة للمحسوبية في التعيينات.

 

كما أن منظومة الفساد ما زالت تتحكم في الصفقات والتمويلات المرتبطة بالزراعة حتى لا يكاد المرء يجد أثرا ملموسا للمشاريع التي تمول بقروض وهبات أجنبية. (عن الفساد في القطاع راجع على جوجل مقالنا: موريتانيا: مكافحة الفساد أم مكافأة الفساد).

 

ويضاف إلى العوامل السابقة التي تثير سحابة من الشكوك حول جدية الخطاب الحكومي أن زراعتنا المطرية ما تزال بدائية تمارس بأصناف حبوب قديمة وبذور سيئة مجهولة التراكيب الوراثية، ومن دون حرث للأرض ولا تسميد ولا ري تكميلي، تماما كما كان الهنود الحمر في حضارة المايا يفعلون قبل أكثر من ألفي سنة (انظر المقارنة بين أساليبنا الزراعية وأساليب الهنود الحمر، مقالنا على جوجل: موريتانيا: الزراعة على طريقة الهنود الحمر).

 

وفي الأخير، ليس لنا في انتظار ما ستسفر عنه جعجعة الحكومة إلا أن نتركها تتحدث عن ما تقول إنها بوادر نهضة زراعية، ولكن أعيننا ينبغي أن تبقى مسلطة على الأرض، لا على شاشة التلفزيون الحكومي، فالزراعة على أمواج الأثير لا تطعم شعبا، ولا تحفظ استقرارا، وما كنا فيها إلا من السابقين، السابقين..!

 

بقلم: يحيى بن بيبه

أربعاء, 26/04/2023 - 16:34