
في مستهل عام 2012، نشرت مقالا حمل عنوان "الجزائر هي الخيار أو لا خيار"، فكان بمثابة صفعة مؤلمة لأبواق الدعاية المغربية وطابورها الخامس لما خلقه من دوي كبير في السياسة والإعلام على المستويين المحلي والمغاربي، حيث لم يتمكن أبواق المغرب وطابورهم الخامس من الرد على المقال لما فيه من حجج بالغة فسارعوا إلى طمسه من فضاء الإنترنت لما حمله من وضوح استراتيجي وصدق في الموقف.
واليوم، وبعد أكثر من عقد على صدوره، يعود المقال إلى واجهة النقاش، مدفوعًا بمحاولات متجددة من "خفافيش المخزن" للنيل من التعاون الأخوي المتنامي بين موريتانيا والجزائر.
المراجعة ليسا ترفا
إعادة قراءة هذا النص ليست ترفًا سياسيًا، بل ضرورة تفرضها اللحظة، كما تأتي لهدفين أولهما إبراز ما قدمته الجزائر لموريتانيا في مختلف مراحل نشأتها، والثاني التذكير بمواقف تاريخية خالدة وغائبة عن الكثيرين وبخاصة عن الأجيال الصاعدة والأنظمة المتعاقبة في البلدين، حيث تتكثف محاولات التشويش على خيارات موريتانيا السيادية، ويتصاعد استهداف العلاقة مع الجزائر في إعلام الظل وصناعته المُضلّلة. لذلك، نفتح من جديد هذا المقال لمراجعته، ليس فقط في ضوء المستجدات الجيوسياسية، بل أيضًا لتأكيد أن البوصلة لم تتغير: فالجزائر كانت وستظل خيارًا استراتيجيًا لا بديل عنه لموريتانيا، مهما علا صراخ المأجورين.
نعم.. لقد اثار الزيارات التي تبادلتها القيادتان الموريتانية والجزائرية على أعلى مستوى ، أحقاد عدد من مرضى النفوس وأسالت مداد متحاملين أعماهم الجهل بمصالح موريتانيا والإلمام بتاريخها القديم والحديث، عن تقدير مدى قوة العلاقات التاريخية والثقافية والروحية والدينية التي تربط موريتانيا بالجزائر، بأواصر أقوى من أن يوهنها كاتب حقود مأجور أو سياسي حسود يتلون تلون الحرباء، وهي علاقة لابد أن تدوم وتتعزز "وما جمعته يد الله لا يمكن أن تفرقه يد الشيطان".
حملات التشويش
وقد ذكرتني حملات التشويش هذه بحملات سابقة تعرضت لها الجزائر الشقيقة عام 2006 بتحريض من جهات يسوأها التقارب بين بلد المليون ونصف مليون شهيد وبين بلد المليون شاعر، وأن تمتزج دماء شهداء هذا البلد العملاق بحبر علماء بلاد شنقيط.
وأجد من واجبي اليوم أن أرد على المتحاملين وأن أوضح مزايا التعاون مع شقيقتنا الجزائر، كما سبق لي أن فعلت بكل فخر واعتزاز في عدة مقالات وبخاصة مقالي المنشور صيف 2006 في عدة صحف محلية بعنوان: "نحن والجزائر: الجار الكبير"، والذي عصفت به أيدي الخفافيش، لما حمله من إزعاج ورسخه من حقائق.
وقد كنت أستبق الأحداث وأستشرف المستقبل فكان مقالي الوحيد الذي تصدى تاريخئذ، لأولئك المتحاملين؛ لأنني أعلم أن أيد خفية تحرك تلك الأقلام وسأبرز في هذه المعالجة أو هذا البحث إن صح التعبير، جوانب من مواقف الجزائر الإيجابية الداعمة لموريتانيا في سنوات النشأة الأولى، وبخاصة في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وإلى تاريخ اليوم.
الفضاء الواحد
لا يخفى على أحد أن الجزائر وموريتانيا تشكلان من النواحي الانتربولوجية والجغرافية والتاريخية فضاء واحدا، وإن كانت عوامل الطبيعة أبعدت الأشباح عن التلاقي المستمر وعرقلت التواصل رغم أنه لم ينقطع متحديا عوامل التعرية وقحولة المكان.
وهذا ما لاحظه الإداري الاستعماري المستشرق الفرنسي أكزافيي كابولاني (الذي ولد ونشأ في الجزائر)، بخبرته السياسية والإدارية وبثقافته الواسعة، حيث أدرك متانة التقارب الموريتاني الجزائري من حيث التركيبة السكانية بل من حيث السحنات ومن حيث التقاليد والعادات؛ ففكر حينئذ في إحداث ربط بين موريتانيا وجنوب الجزائر، إلا أن الحكومة الفرنسية المركزية في باريس رفضت ذلك وفضلت أن يكون التوغل الاستعماري في موريتانيا عبر السنغال في خطوة ماكرة تهدف إلى فصل موريتانيا عن بعدها الطبيعي وإبقائها معلقة بغرب إفريقيا.
وهذا التقارب الشديد هو الذي جعل الزعيم الجزائري الراحل هواري بومدين رحمه الله تعالى يعرض عام 1972 على الرئيس المؤسس الراحل المختار ولد داداه رحمه الله تعالى إقامة فيدرالية بين موريتانيا والجزائر، مؤكدا "أنها ستفيد الجانبين كثيرا".
وقد حرص الرئيس بومدين على أن يؤكد للمختار عدم اقتناعه بالمبررات التي قدمها بخصوص الفيدرالية، مبرزا أنها لن تؤثر أبدا على استمرارية الدعم الجزائري لموريتانيا، ولا على العلاقة الشخصية بينهما.
وبعد الاستقلال كان التقارب الجزائري الموريتاني قائما.
الشناقطة وثورة الجزائر
ولا يخفى على أحد أن الشناقطة ساعدوا ثورة الشعب الجزائري بالنفس والنفيس، وبالفتاوي المؤصلة والعواطف الداعمة وبالقصائد الشعرية الحاسمة، وقد خلدوا انتصارها على المستعمر بأروع ما جادت به قرائحهم من الشعر الفصيح واللهجي، لأن ثورة الجزائر ثورة كل عربي ومسلم وإفريقي وانتصارها انتصار للعروبة والإسلام، والموريتانيون هم الأقرب دما وعقيدة وجوارا، وهذا ما جعل موريتانيا تعتمد على شقيقتها الجزائر في تأسيس أنظمة الإدارة والتعليم والقضاء والتسيير الاقتصادي في سنوات الاستقلال الأولى في وقت كان المغرب يرفض الاعتراف بموريتانيا وستعبرها جزءا من أراضيه، وهو خطأ لازال مرتكبا اليوم مع الأسف في قضية الصحراء الغربية.
الجزائر وفتح الأبواب
ولمطالعة صور من الاعتماد الموريتاني على الجزائر وصور مشرقة من فتح الجزائر أبوابها لموريتانيا في تلك الفترة الحاسمة من تاريخنا القومي، نراجع مذكرات الرئيس المؤسس للجمهورية الإسلامية الموريتانية الأستاذ المختار ولد داداه رحمه الله، لما لها من قيمة تاريخية ولكونها شهادة حية على العصر؛ ولأن الرئيس الراحل لم تمنعه خلافاته مع الرئيس بومدين، من التحلي بالنزاهة الفكرية التامة خلال كتابته لمذكراته بعد ربع قرن من سقوطه ووفاة الزعيم بومدين عليهما من الله الرحمات.
ففي الفصل الـ16 من المذكرات المعنون: "نحن والجزائر الجار الكبير"، يقول الرئيس الراحل: إن العلاقات الجزائرية الموريتانية تطورت تطورا كبيرا بعد زيارتي للجزائر عام 1967، حيث نشط التنسيق الديبلوماسي بين البلدين على جميع المستويات الخارجية، وعلى الصعيد الداخلي يقول الرئيس ولد داداه: "تطور التعاون الجزائري الموريتاني بنشوة وحماس حتى سنة 1975، بل إن الجزائر أعانتنا كثيرا"، ثم يتابع الرئيس "ما بين 67 و75 كونت الجزائر الكثير من الأطر العليا والمتوسطة المدنية والعسكرية، وهذا ما يفسر أن أكبر جالية طلابية عندنا في الخارج كانت في الجزئر، وكانوا كلهم ممنوحين من طرف الحكومة الجزائرية.
وعلى الرغم من أن الجزائر كانت تعاني نقصا في الأساتذة والأطباء فإن ذلك لم يمنعها من إيثارنا ببعضهم فضلا عن البعثات الفنية وبعثات المساعدة الدائمة، يضيف الرئيس: "ما كان لإنشاء العملة الوطنية والبنك المركزي عام 1973، أن يتحققا في الظروف الجيدة التي تما فيها لولا العون النفيس الذي قدمتها لنا السلطات المصرفية الجزائرية، وفي هذا المجال أثبتت السلطات الجزائرية كثيرا من التضامن والاستعداد والنجاعة".
دور الجزائر في دخول موريتانيا الجامعة العربية
وللجزائر الفضل في انتماء موريتانيا للجامعة العربية، حيث يقول الرئيس الراحل: "فيما يتعلق بانتماء موريتانيا للجامعة العربية نذكر للأمانة التاريخية أن الزعيم بومدين رحمه الله تعالى قام بالكثير من الجهود ليتم هذا الانتساب في أكثر الظروف علنية، حيث حرص الرئيس بومدين خلال رئاسته للقمة العربية على الإعلان عن تبني هذه العضوية في قمة الجزائر عام 1973 بدل ان تقبل هذه العضوية على أخفض -أي–على مستوى وزراء الخارجية- وفقا للعادة المتبعة".
دور الجزائر في حصول موريتانيا
على استقلالها الاقتصادي والمالي
وبخصوص تأميم مناجم الحديد ميفارما (Mifarma) الذي كان أكبر قرار سيادي تتخذه موريتانيا بعد الاستقلال، يذكر الرئيس المختار ولد داداه في مذكراته أن الزعيم الجزائري هواري بومدين كان أول المطلعين على قرار التأميم، حيث قدمه لنصائح بالتروي خوفا من ردة الفعل الفرنسية؛ وقال: "إن الفرنسين قادرون على القيام بأي شيء بما في ذلك الإطاحة بالنظام الذي لم يبلغ الحلم آنذاك، إذا ما مست مصالحهم، مؤكدا أن الجزائر تضع كافة إمكانياتها تحت تصرف موريتانيا فيما إذا تعرضت للمضايقات الفرنسية".
ولم يستبعد المختار ولد داداه احتلال فرنسا لمدينتي الزويرات وانواذيبو وعلى الفور أكد له الرئيس بومدين أنه سيتخذ ما يلزم من الإجراءات الضرورية، وعندها تم الاتفاق على وضع وحدات من الجيش الجزائري في حالة تأهب يوم الإعلان عن قرار التأميم في ذكرى الاستقلال الوطني الـ 28 نوفمبر 1974، وهي جاهزة للتدخل عند أول نداء للرئيس المختار ولد داداه.
وكان من المقرر أيضا أن يكون الرئيس بومدين موجودا في مدينة تيندوف للإشراف المباشر على الأمور، لكن لم يحدث في النهاية أي شيء.
وقد علق الرئيس ولد داداه على هذا الموقف قائلا: "لقد أبدت الجزائر استعدادا كبيرا ورغبة خالصة في مؤازرة موريتانيا ومساعدتها في وقت من أحرج الأوقات في نضالها من أجل التحرر، وكنا مدينين لها كثيرا بذلك".
خصوصية العلاقات الموريتانية - الجزائرية
وما يميز علاقاتنا مع الجزائر هو أنها علاقات خالية من الضغوط والأطماع التوسعية، يقول كبير قضاة البلد يومها الشيخ محمد سالم بن عبد الودود اليعقوبي رحمه الله تعالى مرحبا بالزعيم محمد عبر الرحمان بوخروبه هواري بومدين خلال زيارته التاريخية لموريتانيا عام 1972 والتي زار فيها نواكشوط ونواذيبو وأطار وروصو وارتدى فيها الدراعة الموريتانية وهو ما لم يفعله من قبل تقدير لخصوصيتنا الحضارية الثقافية؛ تلك الزيارة التي لهج بها الشعراء واحتفت بها القوى التقليدية المحافظة في البلد من شيوخ وعلماء أعيان، حيث أن الزعيم كان يحظى بتقدير كبير ومكانة عظيمة لكونه أحد أبناء الزوايا الشرعية وخريج جامع الأزهر الشريف.
يقول الشيخ محمد سالم بن عدود اليعقوبي كبير قضاة البلد والذي سبق أن خلد ملاحم الثورة الجزائرية في شعره، مرحبا بالزعيم هواري بومدين:
أهلا بكم من وافد وبوفده
أهلا بكم من سادة أشراف
قوم زهت أخلاقهم وطباعهم
فكأنها المكنون في الأصداف
إنا هنا وهناك شعب واحد
لا فرق في العادات والأعراف
والدين يشهد باتحاد بيننا
وكذا اللسان ووضعنا الجغرافي
إلى أن يقول:
لسنا نعبر عن مدى أفراحنا
لقدومه بمناطق الوصاف
كلا ولا بوسائل التبجيل من
شكر وترحيب ولا بهتاف
ومصاقع البلغاء ما بلغوه
في تعبيرهم بلوافت وقوافي
شرف لدولتنا وفخر خالد
في لوحة التاريخ ليس بخافي
ومن خصوصية العلاقات الثقافية والاجتماعية احترام الجزائر للتنوع الثقافي "لمجتمع البيظان" بمفهومه الواسع.
الموقف من الصحراء الغربية
ومن ضمن ذلك موقف الجزائر من قضية الصحراء الغربية، حيث رفضت توسع المغرب باتجاه الصحراء داعية لتصفية الاستعمار من الإقليم وتمكين أهله من ممارسة حقهم في تقرير المصير وفاء لمبادئ ثورة نوفمبر الخالدة.
وقد رفضت الجزائر في هذا الصدد اتفاقية مدريد المشؤومة التي قسمت الصحراء قسمة ضيزي بين موريتانيا والمغرب، والتي نجمت عنها حرب الصحراء الكارثية التي هي بالنسبة للموريتانيين "حرب أهلية" انجر عنها دخول موريتانيا في دوامة الانقلابات لما تؤدي له من انعدام في الاستقرار السياسي.
وهذا ما كان الزعيم الراحل هواري بومدين قد حذر منه الرئيس الراحل المختار ولد داداه خلال آخر لقاء بينهما في بشار نهاية عام 1975، ذلك اللقاء الذي كان بالغ السخونة، في ظرف كانت العلاقة بين الزعيمين في أوج قوتها حتى أن كبريات الصحف الفرنسية وصفت موريتانيا تاريخئذ بالولاية الجزائرية ال48.
وجاء تحذير الرئيس بومدين خوفا على موريتانيا وغيرة عليها حيث كان رحمه الله يحمل لها حبا كبيرا في قلبه والشواهد على ذلك عديدة.
إن موقف الجزائر-وهذا أقوله للذين لا يقدرون الأمور- من قضية الصحراء الغربية يتضمن في طياته حفاظا على المجتمع الموريتاني بشقيه الموريتاني والصحراوي، حيث أن المغرب لم يكن ليتورع عن ابتلاع موريتانيا بمجرد أن يستقيم له ابتلاع الصحراء، لأن سياسته التوسعية لا حد لها، ولأن قادته يعتقدون أن حدود المغرب تتجاوز موريتانيا نحو مالي والسينغال ضمن ما يسميه حزب الاستقلال ضمن أدبياته القديمة الجديدة، "المغرب الكبير"، ويندرج في هذا الإطار ذاته موقف الجزائر التاريخي من الأحداث التي جرت بين موريتانيا والسينغال، وفي سياق حملة التشويش المتجددة على خيارات موريتانيا السيادية، يجدر التذكير بأن محور باريس–الرباط–دكار سبق أن نفّذ مؤامرة مكشوفة ضد موريتانيا، مستهدِفًا زعزعة استقرارها الوطني خلال التوترات التي اندلعت بينها وبين السنغال أواخر الثمانينيات. وقد كادت تلك الأحداث أن تعصف بكيان الدولة الموريتانية ضمن مخطط إقليمي أوسع، خُطط له بعناية وشرع في تنفيذه تحت غطاء سياسي وإعلامي مركب.
وفي خضم هذه اللحظة المصيرية، برز موقف الجزائر بوصفه صمام أمان استراتيجيًا، حين أوفدت وزير خارجيتها حينها، بوعلام بلسايح، إلى نواكشوط، حيث أعلن للعالم، بوضوح تام موقف بلاده الحاسم قائلاً: "جئت إلى نواكشوط محمّلاً برسالة أخوة وصداقة وتضامن. إن الجزائر تتابع الأوضاع باهتمام بالغ، ولن تبقى مكتوفة الأيدي إذا ما تطورت الأمور."
لم يكن هذا الموقف مجرد تعبير دبلوماسي، بل كان رسالة ردع واضحة ضد أي مغامرة تهدد وحدة موريتانيا واستقرارها، وهو ما سجّل للجزائر موقفًا تاريخيًا لا يزال صداه حاضراً في الذاكرة الوطنية الموريتانية.
يقول المتنبي:
لكل امرئ من دهره ما تعودا : وعادة سيف الدولة الطعن في العدا
الجزائر وأزمة 1989 مع السنغال
وليس الموقف الجزائري خلال أزمة موريتانيا والسنغال إلا امتدادًا لثوابت راسخة في السياسة الجزائرية تجاه موريتانيا. فقد سبق ذلك موقف حاسم في ستينيات القرن الماضي، حين رفضت الجزائر عرضًا مغربيًا خطيرًا، تضمن السماح للمغرب بإنشاء قاعدة عسكرية في منطقة تندوف لاستخدامها في شن هجوم على موريتانيا، وذلك مقابل قبول المغرب بترسيم الحدود الثنائية وفق الصيغة التي تُرجّح كفة الجزائر.
هذا العرض، الذي كان سيؤدي إلى كارثة إقليمية، قوبل برفض جزائري قاطع، وقد شرح الرئيس هواري بومدين بنفسه تفاصيله في تسجيل تاريخي ما زال محفوظًا، حيث أكد أن الجزائر لا يمكن أن تساوم على سيادة موريتانيا، ولا أن ترسم حدودها على حساب دولة شقيقة، حتى لو كان الثمن اعترافًا مغربيًا بصيغة حدودية مريحة للجزائر.
لقد فضّلت الجزائر أن تتحمل عبء نزاع طويل الأمد على أن تُشارك في مؤامرة ضد استقلال بلد جار، وهو موقف مبدئي نادر، يُشكّل حجر أساس في فهم طبيعة العلاقات الجزائرية الموريتانية، ويضع كثيرًا من محاولات التشويش الإعلامي في حجمها الحقيقي.
المؤامرة الإقليمية
وبعد ذلك كانت الجزائر قد لعبت دورا كبيرا في فرض عملية اعتراف المغرب بموريتانيا خلال القمة الإسلامية بالرباط عام 1969م حيث اشترط الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين أمطر الله عليه شآبيب رحمته ومغفرته، حضوره لتلك القمة باعتراف المغرب بموريتانيا وهو ما تم بالفعل حيث لم يجد المغرب بُدا عن ذلك.
وبالعودة إلى المؤامرة الإقليمية التي كادت أن تعصف بكيان الدولة الموريتانية أواخر الثمانينيات، يُسجَّل للموقف المغربي حينها أنه اتّسم بالتخاذل والتواطؤ المكشوف، حيث اختار العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، خلال القمة العربية المنعقدة في عام 1989، أن يقف على الحياد السلبي، بل وأن يُمضي في تبرير موقف السنغال ضمن خطاب مراوغ. فقد وصف الأزمة بأنها "واقعة بين بلد جار وآخر صديق"، داعيًا القادة العرب إلى عدم خسارة السنغال، مبررًا ذلك بأن "طرقها الصوفية تقوم بدور روحي كبير في إفريقيا"، في تجاهل صارخ لحجم التهديد الذي كانت تواجهه موريتانيا آنذاك.
بل إن الموقف المغربي، في خضم تلك الأزمة، لم يقتصر على الحياد السلبي والتبرير غير المقبول للموقف السنغالي، بل ذهب العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني إلى ما هو أبعد من ذلك، حين أعلن صراحة رفضه تفعيل اتفاقية الدفاع المغاربي المشترك، التي كان من المفترض أن تشكّل آلية تضامن إقليمي بين دول اتحاد المغرب العربي الوليد آنذاك.
وقد قوبل الموقف المغربي المتخاذل آنذاك بردّ حازم من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين المجيد شهيد الحج الأكبر، الذي رفض محاولة تبرير الموقف المغربي المنحاز للسنغال على حساب السيادة الموريتانية، حيث ردّ أمام القادة العرب في قمتهم بالدار البيضاء عام 1989، بقوله: "لا يهمني إسلام السنغال بقدر ما تهمّني حماية البوابة الغربية للوطن العربي"، في إشارة واضحة إلى أن موريتانيا، بما تمثله من عمق استراتيجي وحدودي، لا يمكن تركها فريسة للمؤامرات بذريعة التوازنات الدينية أو الجيوسياسية.
وهذا ما سبق لي أن أوضح-ته في مقالي التحليلي المعنون "تجاهل متعمد للأدوار العلمية والروحية للجزائر وموريتانيا | الساحة
عودة العلاقات إلى عصرها الذهبي
لقد ظلت الجزائر وفية لمواقفها اتجاهنا رغم القطيعة المؤسفة بين موريتانيا والجزائر، ولو خيرنا لما اخترنا إلا الجزائر، تلك القطيعة المؤسفة التي استمرت من نهاية 75 إلى أغسطس 79، حيث عادت المياه إلى مجاريها، والطيور لأوكارها، والأهل إلى أحضان أهليهم، وذلك في عهد الرئيس السابق والرجل الوطني القوي محمد خونا ولد هيداله، وبذلك استعادت موريتانيا موقعها الطبيعي المؤسس على مصالحها واستقلالية قرارها، ولم تبخل الجزائر في تلك الفترة، حيث قدمت القروض والتمويلات وأعيد تشغيل وتموين مصفاة النفط التي بنتها الجزائر في انواذيبو 1974، وأنشئت الشركات المختلطة ذات الجدوائية الكبيرة على الاقتصاد الموريتاني، مثل الشركة الموريتانية الجزائرية للصيد البحري وشركة النقل البحري، ومولت الجزائر وهيأت الكادر البشري للقيام بمشروع تكرير السكر في انواكشوط، كما مولت ومونت شركة سوماغاز التي تزود السوق الموريتاني بالغاز الطبيعي، إلا أن هذه الشركات والمشاريع الحيوية لم تعمر، حيث عبث بها المسيرون المفسدون.
وكانت الجزائر سباقة لتنفيذ مبادرة إلغاء ديون البلدان الأكثر فقرا، حيث ألغت بإرادة خاصة وبعيدا عن أي تطبيل إعلامي كما هو عادتها ديونا مجملها 250 مليون دولار كانت تطالب بها موريتانيا، وفي هذا المجال استطرد ما أكده لي الرئيس السابق محمد خونه ولد هيداله الذي حكم موريتانيا من عام 1979 إلى نهاية 84 خلال أحد لقاءاتي الحميمية معه، حيث قال لي: في آخر لقاء جمعني مع وزير الخارجية الجزائري السابق الدكتور أحمد طالب لبراهيمي قال لي: "إن الجزائر تنظر لعلاقاتها مع موريتانيا نظرة خاصة جدا لا تحظى بها أية دولة في المنطقة".
وهنا لا يسعني إلا أن أستعير مقولة شاعرنا الكبير العلامة محمد بن الطلبة اليعقوبي (توفي رحمه الله 1272هـ - 1856م):
قوم أبى الله إلا أن يكون لهم
على جميع الورى فضل ورجحان
الخيار هي الخيار الأوحد
أجل؛ لقد دلت الحقائق التاريخية التي سردناها عن علاقات البلدين على الطابع الحميمي الخاص لعلاقاتنا مع الجزائر، كما أن واقعها الحالي يؤكد خلوها من أية عراقيل، والحقيقة أن موريتانيا في الظرفية الحالية المتميزة إقليميا ودوليا بالتموج والاضطراب لا خيار لها من الناحية الاستراتيجية سوى التوجه للجزائر والتضامن معها في مواجهة تحديات التنمية ومستلزمات الاستقرار ومكافحة الإرهاب العابر للحدود.
وجاءت الزيارات الأخيرة المتبادلة على أعلى مستوى لتكرّس تحوّلًا حاسمًا في الرؤية الدبلوماسية لموريتانيا، مؤكدة صواب الخيار الاستراتيجي القائم على التنسيق الوثيق مع الجزائر.
ومن هذا المنطلق يكون على نواكشوط أن تتجاوز نهج التأرجح والموازنة الحذرة الذي طبع مراحل سابقة، لصالح تموقع إقليمي أوضح وأكثر انسجامًا مع المصالح الوطنية العليا.
وعلى المتربصين أن يدركوا أن تقارب موريتانيا والجزائر ليس استثناءً ولا استفزازًا لأحد، بل هو خيار سيادي نابع من قراءة موضوعية لمصالح البلدين في ظل تحولات إقليمية متسارعة. فمن غير المنطقي أن تُقابل كل خطوة في اتجاه تعزيز التعاون الثنائي بين نواكشوط والجزائر بامتعاض أو حملات تضليل، وكأن على موريتانيا أن تظل رهينة لتوازنات الآخرين أو أسرًا لسياسات "التأرجح" القديمة، التي استنزفت القرار الوطني وشوّشت على البوصلة الاستراتيجية.
لقد آن لموريتانيا أن تُمارس حقها الكامل في بناء شراكات نزيهة قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، بعيدًا عن الضغوط غير المعلنة ومناورات الإزعاج الإعلامي. والتقارب مع الجزائر لا يُفهم إلا في سياق هذا التحرر الدبلوماسي، الذي يجب أن يُقرأ باعتباره مكسبًا، لا ذريعة للتأويلات المغرضة.
هذه الخطوة، التي جاءت في ظل ظرف إقليمي معقّد، لا تعبّر فقط عن تقارب ظرفي، بل تعكس تحولاً واعيًا في العقيدة الدبلوماسية الموريتانية، باتجاه شراكة تستند إلى الثقة والمصالح المتبادلة، بدل الإملاءات والتقلبات.
وقد أكدت المشروعات المنبثقة عن أعمال اللجنة العليا المشتركة بين موريتانيا والجزائر عمق هذا التوجه الاستراتيجي، وفي مقدمتها افتتاح المعبر الحدودي بين البلدين، الذي مثّل خطوة تاريخية نحو تعزيز التكامل الاقتصادي وتيسير حركة الأشخاص والبضائع.
كما يُعد مشروع طريق تيندوف – الزويرات، الذي كان حلما طالما راود الشعوب، وتموّله الجزائر بالكامل، نموذجًا ملموسًا للتعاون التنموي الجاد، حيث يشكّل هذا الطريق شريانًا بريًا جديدًا يربط موريتانيا مباشرة بالجزائر، ويمنح شعبي البلدين منفذًا إضافيًا وحيويًا نحو أسواق ومجالات تعاون واعدة.
وفي هذا السياق، مثّل افتتاح فرع مصرف الاتحاد الجزائري في نواكشوط نقلة نوعية في العلاقات المالية بين البلدين، إذ يُعد أول حضور مصرفي جزائري خارج الحدود، ويُجسّد إرادة سياسية واقتصادية لتكثيف الشراكة المباشرة، بعيدًا عن القنوات الوسيطة التقليدية. ومن شأن هذا الحضور البنكي أن يُعزّز التبادل التجاري، ويُسهّل الاستثمارات، ويُوفر أدوات تمويل جديدة تخدم القطاعين العام والخاص في موريتانيا.
وتفتح هذه المشاريع مجتمعةً آفاقًا واسعة للتكامل في مجالات النقل والتجارة والمالية، فضلًا عن إسهامها في إعادة رسم خارطة العلاقات الاقتصادية في منطقة المغرب العربي، على أسس من الندية والاحترام المتبادل.
أراجيف المشككين
إن على المشككين في نجاعة العلاقات مع الجزائر أن يراجعوا أنفسهم وأن يتفحصوا التاريخ القريب، وأن ينظروا للواقع الماثل، فسيجدون أن لا مناص من إرساء سياسة التعاون والتكامل بين بلدين يجمعهما كل شيء ولا يفرق بينهما أي شيء.
ويجب في هذا الصدد أن ندرك بعمق ما تمثله التحديات الماثلة، ومن أوضح ذلك وأخطره ما ذكره اللامع الجسور سيدي علي بلعمش في مقال تحليلي قال فيه: الخطة الإماراتية الواضحة لكل ذي عقل: يحتلون موريتانيا بالقوة الناعمة.. يُكملون الحصار على الجزائر ويفتحون أرضها لكل قوى الشر (الناتو وأمريكا وإسرائيل)، وبعد سقوطها – لا قدر الله – يفتحون تونس لغزو مماثل، ثم يعودون إلى موريتانيا لإخراج العرب والمسلمين، وتغيير التركيبة السكانية، وهو ما بدأت تلوح معالمه من خلال اللغط المثار حول الهجرة ومن خلال ارتفاع الخطاب العنصري الشرائحي الذي تغص به وسائل التواصل الاجتماعي ".
تفعيل معاهدة الأخوة والوئام
وفي هذا المجال، أرى أنه أصبح من اللازم بل الواجب تفعيل معاهدة الأخوة والوئام الموقعة بتوتس في صيف 1983 بين الرؤساء الجزائري الشاذلي بن جديد، والموريتاني محمد خونا ولد هيداله، والتونسي لحبيب بورقيبه.
ومن أبرز أسباب استهداف الجزائر من طرف محور الاختراق الإقليمي الجديد، تمسكها باتفاق السلام والمصالحة في مالي الموقع عام 2015 تحت رعايتها، والذي يُعد الإطار الدولي الوحيد المعترف به لتسوية النزاع في شمال مالي. وقد رفضت الجزائر الانجرار خلف محاولات تصنيف الحركات السياسية الموقعة على الاتفاق كـ"منظمات إرهابية"، مؤكدة على لسان وزير خارجيتها أحمد عطاف أن الحل لا يمكن أن يكون عسكرياً أو أمنياً صرفاً، بل يتطلب معالجة سياسية شاملة وجذرية تراعي خصوصيات المنطقة وتاريخها.
هذا الموقف المبدئي من الجزائر، والذي يستند إلى الشرعية الدولية والتزامات الأمم المتحدة، أثار حفيظة أطراف يتقدمها المغرب، تسعى، مستغلة هشاشة وضعف الأنظمة المهترئة المكونة لتحالف دول الساحل المزعوم، لتقويض هذا الاتفاق والالتفاف على الملف الأزوادي، وفتح الباب أمام أجندات عسكرية خارجية، لا تستهدف الاستقرار بقدر ما تسعى إلى إعادة رسم خرائط النفوذ في الساحل على حساب شعوبه ودوله.
إن قراءة متأنية للعلاقات الموريتانية الجزائرية منذ استقلال موريتانيا تكشف عن خيط ذهبي من الثقة والدعم والتكامل، يجمع البلدين في معادلة يصعب تفكيكها، إلا بإرادة قسرية لا تعبر عن المصالح العليا لموريتانيا ولا عن الحقائق الموضوعية في تاريخها الحديث.
فمنذ اللحظة الأولى للاستقلال، مدت الجزائر يد العون لموريتانيا دون منٍّ ولا شرط، وأسهمت في بناء الإنسان الموريتاني والمؤسسات الوطنية، من خلال التكوين والتأطير والتبادل الثقافي، والمواقف السياسية المبدئية في المحافل الدولية.
ولم تكن الجزائر في يوم من الأيام طرفًا في مؤامرة ضد موريتانيا، بل كانت دومًا درعًا سياسيًا وسندًا استراتيجيًا ومتنفسًا اقتصاديًا، وخصوصًا حين اشتد الخناق وقلّ الأصدقاء وتكالب الخصوم، سواء في قضية الصحراء الغربية أو خلال الأزمات الثنائية مع بعض دول الجوار.
إن الجزائر لم تطلب يومًا من موريتانيا أن تدور في فلكها، بل احترمت استقلال قرارها، وقدّرت حيادها، وعززت سيادتها، وقدمت المساعدة دون مقابل. وفي عالم تحكمه المصالح الباردة والمعادلات الصفرية، يبقى هذا الموقف استثنائيًا.
ولذلك، فإن التمسك بالجزائر خيار استراتيجي، لا يصدر عن عاطفة ولا يُفرض بفعل التاريخ فقط، بل تؤكده الجغرافيا، وتقويه التحديات المشتركة، وتفرضه معادلات الأمن والتنمية والاستقرار في منطقة الساحل والمغرب العربي.
لا مكان للتردد
لقد آن الأوان للنخب الموريتانية، الثقافية والسياسية والإعلامية، أن تُخرج هذه العلاقة من دائرة التردد إلى مجال التأسيس لشراكة حقيقية شاملة ومؤسسية، تقوم على إدراك عميق بأن موريتانيا لا يمكن أن تنهض بمفردها، ولا يمكن أن تحقّق التوازن في بيئتها دون الاستناد إلى عمقها الجزائري.
وفي زمن التكتلات الإقليمية الكبرى، من الاتحاد الأوروبي إلى البريكس، ومن الكوميسا إلى الإيكواس، فإن توطيد العلاقات مع الجزائر ليس خيارًا ظرفيًا أو مجاملة سياسية، بل هو شرط من شروط البقاء في بيئة إقليمية مأزومة، يتصارع فيها الكبار على حساب الصغار.
فلتكن العلاقة مع الجزائر عماد السياسة الخارجية الموريتانية، ولتبقَ شعارات السيادة والحياد متماسكة ما دامت منسجمة مع هذا الخيار الأخوي النبيل، الذي أثبت الزمن أنه خيار البقاء والكرامة والاستقلال الحقيقي.
بقلم:
محمد سالم ولد محمد اليعقوبي
كاتب، وباحث استراتيجي في قضايا الساحل
والصحراء وناشط في المجتمع المدني