هي شمس الذكرى السادسة والثلاثين لرحيل الإمام الخميني (قدّس سرّه) تطلع من جديد، لا لتُبكي القلوب التي عرفته فحسب، بل لتُوقظ في ضمير الأمة ذلك النداء الخالد الذي صدع به هذا الرجل الاستثنائي: "وما النصر إلا من عند الله.".
لقد لم يكن الإمام الخميني رجل دين فحسب، بل كان صرخة في وجه الجور، ومنارةً في ليالي الظلم الحالكة، أضاءت الدرب للأحرار والمستضعفين، وكسرت طوق الهيمنة والسكوت. في زمنٍ كانت فيه الشعوب الإسلامية رازحة تحت نير الاستعمار، والاستبداد، والتجزئة، ارتفع صوته داعيًا إلى وحدة الأمة الإسلامية، لا كحلمٍ شعريّ، بل كتكليف شرعي وضرورة استراتيجية.
الإمام والوحدة الإسلامية: مشروع حضاري لا شعار عاطفي
لطالما أكّد الإمام الخميني على أنّ الانقسام الطائفي والمذهبي ليس سوى معولٍ يستخدمه الأعداء لهدم بنيان الأمة من داخلها، وأن السنّي والشيعي ما هما إلا جناحان لجسد واحد، لا تقوم للأمة قائمة إلا بهما معًا. وكانت كلماته المشهورة: "يدُ الشيعة والسنة يجب أن تكون واحدة. ليس لدينا شيعة وسنة؛ نحن مسلمون، نقف جميعًا ضد الاستكبار."
ولذلك، لم تكن دعوته للوحدة مجرد رغبة وجدانية، بل مشروعًا حضاريًّا يستند إلى فهم عميق لتاريخ الأمة وواقعها الجيوسياسي، أدرك فيه أن أولى خطوات التحرر تبدأ بإزالة الحواجز النفسية والاصطناعية بين أبناء القبلة الواحدة.
فلسطين: الجرح النازف في وجدان الإمام
لم تكن فلسطين بالنسبة للإمام الخميني قضية قومية أو حدودية، بل كانت رمزًا للحق المغتصب، وواجبًا شرعيًا لا يسقط بالتقادم. فاعتبر الكيان الصهيوني "غدة سرطانية" يجب أن تُستأصل، لا يُفاوض معها، ولا يُعوّل على مواثيقها.
وقد كانت مبادرته التاريخية بإعلان يوم القدس العالمي في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك بمثابة فتح جديد في الوعي الإسلامي المقاوم، إذ نقل قضية فلسطين من أروقة السياسة المساومة إلى ساحات الأمة الحيّة. وكان يؤمن أنّ تحرير القدس لا يتم عبر عبارات الشجب والإدانة، بل عبر تفعيل إرادة الشعوب وإعادة توجيه البوصلة نحو العدو الحقيقي.
الثورة الإسلامية في إيران: شرارة التغيير العالمي
بقيادة الإمام الخميني، لم تكن الثورة الإسلامية في إيران مجرد تغييرٍ في نظام الحكم، بل كانت انقلابًا في المفاهيم، حيث أعادت تعريف العلاقة بين الدين والسياسة، وبين العقيدة والعمل، وبين الإمامة والقيادة الجماهيرية. فصوت الإمام خرج من قم ليهزّ عروش الطغاة في كل مكان.
وقد أثّرت هذه الثورة العظيمة في شعوب لا تتكلم الفارسية، ولا تشارك إيران حدودًا جغرافية، لكنها وجدت في خطابه لغة كونية للكرامة والحرية. من بيروت إلى كابول، ومن صنعاء إلى نيجيريا، ومن غزة إلى كاراكاس، كانت كلمات الإمام تُتلى في المساجد، وتُكتب على الجدران، وتُهتف في الساحات.
زوال الكيان الصهيوني: حتمية قرآنية ورؤية خمينية
لم يكن الإمام الخميني يبشّر بزوال "إسرائيل" من منطلق شعاراتي أو عاطفي، بل كان يستند إلى حتمية قرآنية وقراءة استراتيجية. فقد فهم أنّ كيانًا أُسِّس على الدم والظلم، ومدعومًا بالباطل والاستكبار، لا بد أن تكون نهايته كأمثاله في التاريخ.
وقد جاءت المدارس الفكرية التي نهلت من فكره، والحركات المقاومة التي تربّت على نهجه، لترسّخ هذه الرؤية. واليوم، وقد بات الكيان الصهيوني يعاني من هشاشة داخلية، وتفكك سياسي، وعزلة دولية، يبدو أن رؤية الإمام أصبحت أقرب إلى التحقيق من أي وقت مضى.
ختامًا: الإمام باقٍ ما بقي الأحرار
رحل الإمام بجسده في مثل هذه الأيام من عام 1989م، لكنّه لم يمت في قلوب الأمة، بل أصبح أيقونةً للثوار، وأبًا روحيًا لكل مقاوم، وعنوانًا خالدًا في سفر الحرية.
وإن كانت العواصف قد عصفت بالمنطقة، والفتن قد بلغت مداها، فإن مدرسة الإمام الخميني ما تزال صامدة، تربي جيلًا بعد جيل على أن طريق القدس يبدأ من وعي، ويمر بثبات، وينتهي بنصرٍ وعد الله به عباده الصابرين.
فيا إمام الأمة، نمْ قرير العين، فإن دماءك التي سُقيت بها جذور الثورة قد أزهرت، ووصيتك بالوحدة تتردد في خطاب المقاومين، وصوتك لفلسطين ما يزال صاخبًا في ميادين الجهاد، وما زال الأملُ بزوال الكيان المغتصب يتقد في قلوب المؤمنين، كما وعدت وكما وعد الله.
ابوالفضل كريمي
مستشار سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في نواكشوط