تحيين القانون الجنائي الموريتاني /القاضي محمدن ولد الشيخ

  

إصلاح تشريعي متحتم بين الثوابت الدينية والتحديات الحديثة

مقدمة عامة

      إن القانون الجنائي، بوصفه النواة الصلبة للمنظومة القانونية، يُعبّر عن فلسفة الدولة في حماية القيم الجوهرية، وتنظيم وسائل الردع والزجر، وصون النظام العام بجوانبه الثلاثة: العام، الاجتماعي، والأخلاقي.

     ومن هذا المنطلق، فإن مراجعة القانون الجنائي ليست مجرد عملية تقنية لتعديل مواد أو إعادة ترتيب فصول، بل هي تعبير عن إعادة رسم السياسة الجنائية للدولة وفق ثوابتها العقدية، وتوجهاتها السيادية، واحتياجاتها العملية في مواجهة الجريمة.

     وفي الحالة الموريتانية، تتجلى الحاجة إلى تحيين القانون الجنائي في أوضح صورها، نظرًا لعدة عوامل تراكبت تاريخيًا وتشريعيًا، وأفرزت واقعًا قانونيًا متجاوزًا، لم يعد يستجيب للتحديات الراهنة، ولا لمقتضيات العدالة الجنائية الحديثة.

أولًا : مكامن القصور في القانون الجنائي الحالي

     صدر القانون الجنائي الموريتاني بموجب الأمر القانوني رقم 83/162 بتاريخ 9 يوليو 1983، في سياق تاريخي اتسم بمحاولات مواءمة المرجعية الإسلامية مع بعض المفاهيم الوضعية الحديثة، غير أن تلك المحاولة بقيت محدودة الأثر، ومرتهنة بسياقها المرحلي.

     وبفعل التحولات التي عرفها العالم والمجتمع الموريتاني على مدى أربعة عقود، بات هذا القانون يفتقر إلى عدة مقومات أساسية:

  • جمود في البناء المفاهيمي: لا تزال العديد من التعريفات والمفاهيم تعتمد لغة تقليدية، غير قادرة على استيعاب الجرائم المستحدثة، كالجرائم المعلوماتية، وجرائم تبييض الأموال، والجرائم البيئية، وجرائم الاتجار بالبشر.
     
  • محدودية التجريم والردع: يُلاحظ أن النص الحالي لم يطوّر أدواته الزجرية بما يتناسب مع خطورة بعض الجرائم المعاصرة، كما أن كثيرًا من العقوبات لا تحقق مبدأ التناسب، مما أضعف من فعاليتها.
     
  • عدم التلاؤم مع التزامات الدولة: انضمام موريتانيا إلى منظومة قانونية دولية واسعة – تشمل اتفاقيات مكافحة الفساد، والجريمة المنظمة، والإرهاب، وحقوق الإنسان – يستدعي تحيينًا تشريعيًا جوهريًا، وليس جزئيًا.
     
  • قصور في الحماية الإجرائية: لا يوفر القانون القائم ضمانات كافية للضحايا، ولا يراعي على نحو فعّال وضعيات الأطفال، والنساء، والأشخاص في حالات هشّة، سواء من حيث الإجراءات أو من حيث المضمون التجريمي.
     

ثانيًا : الأسس الموجهة لمقترح التحيين

     يرتكز التصور المقترح لتحيين القانون الجنائي الموريتاني على جملة من المبادئ البنيوية، الهادفة إلى التوفيق بين المرجعية الشرعية والمقتضيات الجنائية الحديثة:

1. مركزية المرجعية الإسلامية

     تمثل الشريعة الإسلامية – وفق المذهب المالكي المعتمد – المرجع الأعلى في النظام القانوني الموريتاني. وعليه، فإن كل منطلق لإصلاح جنائي سيكون حتما من مقاصد الشريعة، لا سيما في حفظ النفس، والعقل، والعرض، والمال، والدين.

     و بالتالى فإن أي مقترح لتحيين منظومتنا الجنائية  يجب أن يحرص  على احترام هذا المبدأ، سواء في الجرائم الماسة بالأخلاق، أو في تنظيم العقوبات، أو في ضبط حدود السلطة التأديبية.

2. استيعاب المعايير الدولية والإقليمية

     رغم خصوصية المنظومة الوطنية، فإن مقتضيات الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الدولة، خاصة في مجالات مكافحة الجريمة المنظمة، والفساد، والعنف ضد الأشخاص، تفرض مواءمة مدروسة، دون انجرار وراء مفاهيم لا تنسجم مع القيم الدستورية أو المجتمعية.

3. تبني فلسفة جنائية متكاملة

     يجب أن يستهدف التحيين بناء سياسة جنائية متكاملة، تقوم على التوازن بين الزجر والوقاية، بين العقوبة والحماية، وبين السلطة القضائية والضمانات الحقوقية، مع إيلاء أهمية خاصة للجرائم التي تمس بالأمن الجماعي والمصلحة العامة.

ثالثًا: أبرز ملامح مشروع التحيين

1. إعادة هيكلة النص الجنائي

     أنطلاقا من التصورات الآنفة أقترح أن تنظم الجرائم في كتب وفصول متمايزة، تُبرز وحدة الموضوع وترتيب المبادئ، وتصنف  الجرائم استنادًا إلى معيار المصلحة المحمية، بحيث تشمل:

  • الجرائم الماسة بالأشخاص؛
     
  • الجرائم الماسة بالنظام العام؛
     
  • الجرائم الاقتصادية والمالية؛
     
  • جرائم المعلوماتية والرقمية؛
     
  • الجرائم الماسة بالبيئة والصحة العامة؛
     
  • الجرائم الماسة بوضعية الأسرة والفئات الضعيفة؛
     

     يتحتم  التخلي عن مصطلح “العنف ضد النوع الاجتماعي” لما يحمله من دلالات أيديولوجية، واعتماد مصطلح بديل يحترم الخصوصية الدينية والثقافية، ويراعي فقط مقتضيات الحماية من التعسف.

2. إدراج الجرائم المستجدة

  • تجريم غسل الأموال وتمويل الإرهاب كجريمتين مستقلتين: دون اشتراط صدور حكم بالإدانة عن الجريمة الأصلية؛
     
  • إدراج جرائم الابتزاز الرقمي، واستغلال المعطيات الشخصية، والتحريض على الكراهية عبر الوسائط الإلكترونية؛
     

تجريم الإهمال الجسيم الذي يؤدي إلى ضرر جماعي، خصوصًا في المجالات الطبية والبيئية.
 

3. إصلاح النظام العقابي

  • إدخال العقوبات البديلة: خدمة المجتمع، الإبعاد عن أماكن معينة، الحرمان من بعض الحقوق المهنية؛
     
  • إعادة النظر في العقوبات التقليدية لضمان التناسب، والردع، واحترام الكرامة؛
     
  • تشديد العقوبات في بعض الجرائم التي لم تكن تأخذ خطورتها الكافية، مثل: القماروالعنف داخل الأسرة، والفساد المالي والإداري.
     

4. تعزيز الحماية الإجرائية

  • ضمان الحق في المحاكمة العادلة، وعدم جواز المساس بحرية الأفراد إلا بموجب قرار قضائي مسبب؛
     
  • إدماج آليات حماية الشهود والمبلّغين، وفق ضوابط قانونية دقيقة؛
     
  • تخصيص تدابير إجرائية للفئات الهشة، تضمن كرامتهم دون المساس بسيادة الأسرة أو هرم السلطة التربوية.
     

رابعًا : الإطار المنهجي لصياغة النص

     يجب أن تعتمد منهجية تقنينية محكمة، تقوم على:

  • الاقتصاد في المواد: تفادي التكرار، وجمع الأحكام العامة في صيغ جامعة؛
     
  • حذف المواد المتقادمة أو المكررة في قوانين أخرى (مثل قانون مكافحة المخدرات، أو غسل الأموال)؛
     
  • الإحالة على القوانين الخاصة عند الاقتضاء؛
     
  • تحديد المبادئ الكبرى وترك التفصيل للوائح التنظيمية.
     

خامسًا : محددات فقهية ومعايير ضابطة في الباب الخاص بالأسرة

     خلافًا لبعض الأنظمة المقارنة التي تعتمد مفاهيم غربية كـ”العنف القائم على النوع”، أرى أن يعتمد هذا المشروع مصطلحًا بديلًا هو “الجرائم الماسة بوضعية الأسرة والفئات الضعيفة”، ويراعى فيه الآتي:

  • احترام السلطة الأبوية والزوجية المشروعة وفق المذهب المالكي؛
     
  • تجريم الأفعال التي تخرج عن حدود التأديب الشرعي، أو تلحق أذى بيّنًا؛
     
  • توفير حماية إجرائية للمرأة، والطفل، والمُعال، دون مصادرة حق الولي أو الزوج الشرعي؛
     
  • اشتراط الشكوى المباشرة من الضحية، والصلح في بعض الجرائم، حفاظًا على الروابط الأسرية.
     

خاتمة تحليلية

     إن مشروع تحيين القانون الجنائي الموريتاني لا يُعدّ مجرد مراجعة تقنية لنص قانوني وُضع قبل أكثر من أربعة عقود، بل يمثل تحولًا جوهريًا في تصور الدولة لمفهوم العدالة، ولمكانة القانون الجنائي ضمن المنظومة التشريعية.

      وهو أيضًا دعوة لفتح ورشة وطنية واسعة، تشارك فيها كل الفعاليات الحقوقية، والقضائية، والأكاديمية، من أجل إرساء عدالة جنائية تتأسس على مرجعية شرعية، وتتفاعل مع مقتضيات العصر، وتحمي المجتمع دون تفريط ولا إفراط.

     وبذلك، فإن هذا المقترح لا يُقدم نفسه كنص نهائي مغلق، بل كمشروع مفتوح للنقاش، ومحاولة تأسيسية لرؤية جنائية جديدة، تؤمن بأن حماية الإنسان لا تتناقض مع الانضباط الشرعي، وأن صيانة الأسرة لا تعني تبرير التعسف، وأن الأمن القانوني لا يتحقق إلا بقانون حديث، منضبط، وفعّال.

القاضى / محمدن الشيخ

مكلف بمهمة لدى وزير العدل

عضوسابق فى وحدة التحقيقات المالية الموريتانية

خميس, 07/08/2025 - 09:38