محكمة الحسابات /محمد الأمين ولدلحويج

 

قبل أن نتحدث عن محكمة الحسابات، علينا أن نسأل أنفسنا: ما هي الحسابات أصلًا؟ وكيف تُدار عملية الحساب؟
الحسابات في جوهرها ليست جداول أرقام أو أعمدة توازن، بل فنّ في التسيير، وميزانٌ بين المال والعقل، بين التخطيط والضمير. وإذا استعرتُ من الحسّ الشعبي ما يُقارب معناها، فهي تشبه إلى حد بعيد المثل الحساني القائل: "يَرْعَاهَ سَابگْ تَلَحْگُ"، أي أن حسن التقدير يسبق الفعل، والتبصر خير من التبرير. كما يمكن أن نصفها بأنها "اتْفَاصِيلْ لَيْدِينْ"، أي حسن التدبير والدقة في التصرّف، حيث لا يُترك المشروع لمصيره، بل يُواكب بتسيير اجتماعي وإنساني يراعي الخلف قبل السلف، والنتيجة قبل التبرير.

تفگعْ ذِي التَّقاريرْ... واتْشَيَّنْ لَخلاگاتْ
والاَّ يعْطينا خيرْ... محكمة الحسابات
محفوظ ولد عبّ

حين تزور أي إدارة عندنا، ينتابك شعور غريب: أنك أمام شخصٍ لا أمام إدارة. كأن المرفق العام محكوم بالمزاج لا بالنظام. وحين تبحث عن الساعة، لا تراها في المكتب، وكأن الوقت في عرف الإدارة لا قيمة له! هذا الانطباع البسيط كافٍ ليكشف خللًا بنيويًا في مفهوم التسيير العام، فالإدارة التي لا تُدير وقتها، كيف تدير وطنها؟

تُثار هنا أسئلة جوهرية: هل إدارة المشاريع دورها إعداد الدراسات فقط؟ أم التنسيق بين القطاعات؟ هل الأولوية للإنجازات أم للتخطيط؟ ولماذا تغيب ميزانيات الصيانة عن معظم المشاريع وكأن العمر الافتراضي للمشروع ينتهي يوم تدشينه؟
هذه الأسئلة تكشف أن المشكل ليس في الموارد، بل في المنهج. فالتسيير عندنا يعاني من انقطاع السلسلة بين من يُخطط ومن يُنفّذ، بين من يوقّع ومن يُحاسب، وبين الفاتورة والنتيجة.

رغم تعقيد المشهد، فالحل بسيط، ويبدأ من تعزيز المواطنة. الوطن ليس شعارًا يُرفع، بل نظام انتماء يربط الفرد بالدولة برابطة الواجب قبل الحق. وفي الدول الأوروبية مثلًا، الطفل ابن الدولة قبل أن يكون ابن أسرته إن قصّرت في واجبها، لأن الدولة ترى في الإنسان استثمارًا طويل الأجل.

وللمحاسبة أن تبدأ من أبسط المعادلات: من يأمر بالصرف، ومن يستلم، لا أكثر ولا أقل. لا داعي لتعقيد الآليات وخلق أزمات تداخلات بين الوزارات والهيئات. فالمحكمة التجارية موجودة، لكن المطلوب هو تفعيلها لا استحداث هياكل جديدة تُضاعف البيروقراطية.

المشكل الحقيقي أن المسؤول عندنا قد يُعاقب باسم الدولة، وغدًا تُعفيه الدولة نفسها بجرّة قلم. أيّ منطق هذا؟ كيف نحمّل الفرد مسؤولية جهاز لا يحميه؟ الدولة العادلة لا تُعاقب موظفها فقط، بل تحميه حين ينجح، وتكافئه قبل أن تحاسبه. لذلك، أقول بوضوح: مبدأ المكافأة قبل العقوبة هو المفتاح الحقيقي للإصلاح. حين يشعر المسؤول أن الدولة ستنصفه إن أحسن، سيتجرأ على الإصلاح بدل الخوف من التدقيق.

الفساد يبدأ من سوء التسيير، وسوء التسيير يبدأ من سوء الاختيار. ولكي نحسن الاختيار، يجب أن نلغي تلك القاعدة المدمّرة: "الأرخص هو الأفضل". فالمناقصات عندنا تُبنى على السعر لا على الجودة، ولذلك تُبنى مشاريع تنهار قبل أن تُسلّم.
قمة الفساد أن تكون النسبة المخصصة للسعر في المناقصات بين 60% و80%، بينما تُترك الجودة في الهامش. لكم أن تتصوروا النتيجة بعد سنتين أو أربع سنوات فقط، حين تتآكل المشاريع، وتُهدر الأموال، ويظهر سوء التسيير في أبشع صوره.
المفتشون أنفسهم يجب أن يُحاسبوا على جودة المشاريع لا على حجم الفواتير، وإعداد المناقصات يجب أن يكون من طرف مختصين لا من موظفين إداريين يبحثون عن الشكل دون الجوهر.

من الضروري أن تحدد الدولة في كل سنة سياستها الاقتصادية والاجتماعية بوضوح، وتشرحها للمسيرين، حتى لا يسير كل قطاع في اتجاه مختلف. فالسياست العامة يجب أن تكون مرجعًا للتخطيط وللتسيير معًا، وإلا تحولت الدولة إلى جزر متناثرة داخل خريطة واحدة.

مشروع بلا صيانة هو مشروع محكوم بالفشل المؤجل. وعليه يجب أن يُحاسب المفتش الذي يُصادق على مشروع دون بند صيانة، لا أن يُعاقب من لم يصنّ المشروع لاحقًا. الصيانة ليست تكلفة إضافية، بل تأمينٌ على استثمار وطني.

إن إدارة الشأن العام ليست أرقامًا على ورق، بل أمانة في رقاب. وليس من العدل أن يُجرّح المسؤول في سمعته بسبب اجتهاد أراد به الخير، أو أن يُختزل تقييمه في فاتورة يراها مفتش لا يرى أبعد من رقمها. المسؤول الحقيقي هو من يُحسّن المشروع لا من يُحسّن الفاتورة، ومن يتخذ القرار بشجاعة لا من يهرب خوفًا من التدقيق. فالإصلاح لا يبدأ من محكمة الحسابات، بل من ثقافة الحساب. وحين نحاسب أنفسنا قبل غيرنا، نغني المحكمة عن عناء المرافعة.

محمد الأمين لحويج

خميس, 16/10/2025 - 01:17