الحكم العسكري بين تغييب القانون وصناعة الأزمات

منذ أن وقع الانقلاب العسكري، والعسكريون الذين تعاقبوا على تسيير البلد يديرونه وفق إرادة الحاكم العسكري وحده، وبما يخدم – في نظره – إطالة بقائه في السلطة، بعيدًا عن القانون، ومنطق العدالة، والحكامة الرشيدة، والتسيير السليم لشؤون الدولة. وقد أدى هذا النهج إلى جرّ البلاد إلى أزمات وطنية ودولية بالغة التعقيد، يصعب حلّها. وغالبًا ما يخلّف الحاكم العسكري تلك الأزمات لخلفه، الذي يعجز بدوره عن حلّها رغم محاولاته الارتجالية غير القانونية، وتضحياته المالية من المال العام لإسكات أصحاب الحقوق مؤقتًا، إلى أن تنتقل الأزمات بدورها إلى الحاكم الذي يأتي من بعده.

ولو أن هؤلاء الحكام تجردوا من ذواتهم، وطبّقوا النصوص القانونية العادلة على كل جريمة وكل شأن وطني، لانتهت المشكلات والجرائم وفق مقتضياتها القضائية الطبيعية.

ومن المعلوم أن هؤلاء الحكام العسكريين تعرضوا – إلى عهد قريب – لانقلابات ومحاولات انقلابية عديدة؛ فقد اتُّهم العسكريون البعثيون يومًا باتهامات ظنية، فعوقبوا جميعًا بالطرد من المؤسسة العسكرية دون محاكمة، فكانت ردة فعلهم اللجوء إلى الصمت. ثم جاء انقلاب 16 مارس، فكان الحاكم العسكري يومها هو الوحيد بين زملائه الذي أدرك الحكمة، فبدلًا من الإعدام الميداني قرر محاكمة الانقلابيين محاكمة عسكرية، فنُفّذ الإعدام في القليل منهم، وأُغلقت بذلك صفحتهم.

ثم جاء انقلاب الزنوج، واتُّهم أصحابه بالتلبس. وفي الأعراف العسكرية الدولية، فإن مصير منفذي الانقلابات الفاشلة هو الإعدام المحقق، دون أي حق لذويهم في التعويض. ومع ذلك، فإن ذوي هؤلاء أصرّوا على المطالبة بالتعويض. ولو افترضنا – جدلًا – أن لبعض ذوي الانقلابيين ميزة أو أحقية خاصة، واستحقوا التعويض، فإنه يجب أن يكون ذلك لمرة واحدة فقط، وبموجب صلح موثّق بين ذوي الضحايا المستحقين وبين الدولة، بعيدًا عن السياسيين ونواياهم، ليكون ذلك الصلح نهاية مطلقة للملف، دون أن يبقى «جمرًا تحت الرماد» إلى الأبد، يثير التوتر بين المواطنين، ويستغله المنابر المنقسمة داخليًا وخارجيًا، ويشغل الدولة عن أزماتها الراهنة التي تعود بالنفع على الجميع.

يقول الشاعر:

لا تشغلِ البالَ بماضي الزمانِ
ولا بآتِ العيشِ قبلَ الأوانِ
واغتنمِ الحاضرَ لذاتِه
فليس في طبعِ الليالي الأمانُ

ذ/ الدكتور محمد كوف الشيخ المصطفى العربي

أحد, 23/11/2025 - 23:23