الطبقة الحاكمة في موريتانيا: دراسة سوسيولوجية في آليات النفوذ وإعادة إنتاج النخبة

 

 

بداية

     تفرض دراسة النخبة الحاكمة في موريتانيا تتبّعاً دقيقاً لبنية السلطة وتقسيم الامتيازات داخل الجهاز الإداري، مع الاستفادة من المناهج التحليلية التي طوّرها علم الاجتماع السياسي.

     تكشف هذه الدراسة عن وجود منظومة متماسكة من العلاقات غير الرسمية التي تتحكم في مسارات الولوج إلى مواقع النفوذ، وتُعيد إنتاج ذاتها بآليات تستند إلى رأس المال الرمزي والمصالح المتبادلة، بعيداً عن المعايير الموضوعية للترقّي والكفاءة.

 

أولاً: الإطار النظري – نحو فهم سوسيولوجي لبنية النخبة

     تستفيد مقاربة النخبة الموريتانية من أعمال كبار منظّري علم الاجتماع السياسي:

1. باريتو ونظرية «تداول النخب»

      يرى فيلفريدو باريتو أن النخب لا تزول، وإنما تتداول عبر آليات تفضي غالباً إلى إحلال نخبة من ذات النمط والبيئة الاجتماعية[1]. 

     يُلاحظ في الحالة الموريتانية غياب التداول الحقيقي، إذ يجري تجديد النخبة من داخل الأطر نفسها.

2. موسكا و«الأقلية المنظمة»

     اعتبر غايتانو موسكا أن كل مجتمع يتحكم فيه “طبقة حاكمة” تمتلك من القدرة التنظيمية ما يمكّنها من فرض سيطرتها على الأغلبية[2].

      وهو توصيف دقيق لبنية السلطة الموريتانية القائمة على شبكات النفوذ المرتبطة بالمصالح والقرابات.

3. بورديو والرأسمال الرمزي

     قدّم بيير بورديو أدوات تحليل فعّالة لفهم آليات إعادة إنتاج النخبة عبر الحقول الرمزية، حيث يُشكّل الرأسمال الاجتماعي والرمزي أهم بوابة للوصول إلى المواقع العليا[3].

     ويظهر هذا بوضوح في الإدارة الموريتانية التي تحتكم للعلاقات الشخصية أكثر من المعايير المهنية.

4. رايت ميلز و«مثلث القوة»

     تُفيد نظرة ميلز حول تداخل السياسي والاقتصادي والعسكري في تكوين النخبة[4].

     فالحالة الموريتانية تشهد تماساً مشابهاً بين مواقع القرار الإداري والسياسي، مما يخلق منظومة متماسكة يصعب اختراقها.

 

ثانياً: آليات انغلاق الطبقة الحاكمة في

     يمكن تحديد أبرز الآليات التي تُعيد عبرها النخبة إنتاج ذاتها كما يلي:

1. التحكم في شروط الولوج

      تُفرض قواعد اجتماعية غير مكتوبة تحكم من يمكن أن يُقبل في مواقع حساسة ومن يُستبعد، في إطار ما يسميه بورديو «العنف الرمزي»[5].

      ويشمل ذلك التعيينات الحساسة، والملفات ذات الطبيعة السياسية أو الاقتصادية.

2. احتكار الامتيازات المهنية

يشمل ذلك:

  • العلاوات النوعية؛
     
  • الدورات التكوينية الخارجية؛
     
  • التمثيل الدولي؛
     
  • عضوية اللجان العليا.
     

     ويشكّل هذا الاحتكار إحدى الأدوات الرئيسية للحفاظ على تماسك النخبة.

3. إعادة إنتاج المسار الإداري

     يتم تسريع مسار التقدم لدوائر النفوذ، مقابل إبطائه أو تجميده لغير المنتمين إليها، رغم توفر الكفاءة.

     وهو تطبيق لنمط «الهيمنة الهادئة» عند بورديو حيث تُمارس السلطة دون إعلان مباشر[6].

 

ثالثاً: إسهامات بعض المفكرين الموريتانيين في تحليل البنية السياسية

1. عبدالله ولد أباه

    يؤكد في كتاباته أنّ النخبة السياسية في موريتانيا تتقاطع مع بنى اجتماعية قبلية، مما يجعل الدولة الحديثة تُعيد إنتاج “نخبة تقليدية” داخل جهاز حديث[7].

2. محمد بن المختار الشنقيطي

     يرى أن النخب العربية – ومنها المحلية – تتعامل مع السلطة بمنطق “الخوف من التداول”، وهو ما يخلق نمطاً من الانغلاق المهني والسياسي، ويجعلهما وجهين لنفس البنية[8].

3. أحمدو ولد عبد القادر

     يشير في مقالاته ودراساته النقدية إلى أن التراتبية الاجتماعية التقليدية تلقي بظلالها على الإدارة، وتحدد – ولو بشكل غير صريح – مسار الفرد في هرم المؤسسة[9].

 

رابعاً: انعكاسات هذه البنية على الدولة والمرفق العام

1. ضعف الحوكمة

     تتراجع الشفافية في التعيينات، وتزداد أهمية الاعتبارات غير المهنية، مما يحدّ من قدرة الدولة على بناء جهاز إداري فعّال.

2. إقصاء الكفاءات

     تُقصى خبرات مهمة بسبب عدم ارتباطها بشبكات النفوذ، وهو ما يؤدي إلى ضعف تكوين نخبة مهنية جديدة تستطيع تجديد الإدارة والسياسات.

3. فقدان الثقة في المرفق العمومي

     يعزّز النظام المغلق شعوراً عاماً بأن الوظيفة العمومية لا تعمل بمنطق الاستحقاق، مما يضعف الانتماء المهني ويشجع على الانسحاب أو اللامبالاة.

4. إعادة إنتاج الهشاشة السياسية

     النخبة غير المتجددة تُنتج إدارة غير متجددة، وهو ما يجعل الدولة أقل قدرة على التكيف مع التحديات الحديثة.

 

خامساً: نحو مقاربة إصلاحية شاملة

1. المسار الهيكلي

  • تقنين معايير التعيين والترقية؛
     
  • ضبط نظام اللجان المهنية؛
     
  • ربط الامتيازات بالأداء.
     

2. المسار الثقافي

  • نشر قيم الخدمة العامة؛
     
  • تعزيز ثقافة الاستحقاق؛
     
  • الحد من تأثير البنى التقليدية على المؤسسات الحديثة.
     

فى الختام

     إن تحليل الطبقة الحاكمة في موريتانيا يكشف عن منظومة مغلقة تُعيد إنتاج ذاتها وفق آليات سوسيولوجية واضحة، تتداخل فيها البنية التقليدية مع المتطلبات الحديثة للدولة. واستيعاب هذه البنية ضرورة منهجية لإرساء إصلاح مؤسسي قادر على فتح المجال أمام كفاءات جديدة، وتعزيز الثقة في المرفق العمومي، وبناء نخبة وطنية تتجدد عبر الاستحقاق لا عبر الامتياز الوراثي أو السياسي.

 

(م ش م ش )

_________________

الهوامش

  1. فيلفريدو باريتو، رسالة في النخبة والمجتمع، الطبعة الفرنسية، 1916.
     
  2. غايتانو موسكا، أساس علم السياسة، 1896.
     
  3. بيير بورديو، الهيمنة الذكورية، منشورات Le Seuil، 1998؛ ورأس المال الاجتماعي، مقالات متفرقة.
     
  4. C. Wright Mills, The Power Elite, Oxford University Press, 1956.
     
  5. Pierre Bourdieu, La noblesse d’État, Paris, Minuit, 1989.
     
  6. Pierre Bourdieu, Sur l’État, Cours au Collège de France, 1989–1992.
     
  7. عبد الله ولد أباه، الدولة في الفكر العربي الحديث، مركز الجزيرة للدراسات، 2015.
     
  8. محمد بن المختار الشنقيطي، أزمة الدولة العربية الحديثة، أوراق فكرية منشورة.
     
  9. أحمدو ولد عبد القادر، مقالات اجتماعية وثقافية منشورة في الصحافة الوطنية، 1980–2010.
     

 

 

ثلاثاء, 25/11/2025 - 16:22