
هل تهيّئ الأوضاع الحالية في موريتانيا لنشأة جيل زد؟
تمهيد
تشهد موريتانيا خلال العقد الأخير تحولات بنيوية متسارعة على المستويات التعليمية والاجتماعية والثقافية والاتصالية، ما يثير سؤالًا جوهريًا حول ما إذا كانت هذه البيئة تمهد لظهور جيل موريتاني جديد يُشبه في خصائصه ما يُعرف عالميًا بـ”جيل زد” (Génération Z).
يمثل هذا الجيل فئة الشباب المولودين ما بين 1997 و2012، الذين تشكلت ذهنياتهم في فضاء رقمي مفتوح (Espace numérique ouvert)، واتسم وعيهم بالقدرة على التحليل، والنقد، والتفاعل المستمر مع القضايا العامة عبر الوسائط الحديثة (Réseaux sociaux).
يهدف هذ المقال إلى تحليل الأوضاع الوطنية الراهنة واستجلاء مدى ملاءمتها لانبثاق جيل جديد بخصائص فكرية واجتماعية مميزة، بالاعتماد على المعطيات الإحصائية الرسمية والوقائع الاجتماعية المعاصرة.
أولًا: البنية التعليمية بوصفها حاضنة أساسية لظهور الجيل
تشير البيانات الصادرة عن وزارة التهذيب الوطني والمركز الوطني للإحصاء (ONS) إلى وجود قاعدة شبابية واسعة داخل المنظومة التعليمية. ووفقًا لأحدث التقديرات (2021–2022):
- التعليم الأساسي: حوالي 780 ألف تلميذ، بينهم 550 ألفًا في الابتدائي (Cycle primaire) و230 ألفًا في الإعدادي (Cycle intermédiaire).
- التعليم الثانوي: نحو 130 ألفًا في التعليم الثانوي العام والتقني (Enseignement secondaire général et technique).
- التعليم العالي: ما بين 55 و60 ألفًا في الجامعات والمعاهد العليا.
هذه الأرقام تعكس حجمًا ديمغرافيًا مؤثرًا لجيل يتلقى تعليمه في بيئة أكثر انفتاحًا مقارنة بالأجيال السابقة، مما يؤهله لتبني خصائص جيل زد.
ثانيًا: التحول الرقمي وانتقال الهوية الاجتماعية إلى الفضاء الافتراضي
شهدت موريتانيا خلال السنوات الأخيرة طفرة رقمية متنامية، تجلت في توسع استخدام الهواتف الذكية (Smartphones)، وتحسن نسب الولوج للإنترنت (Accès Internet)، واتساع حضور منصات التواصل الاجتماعي (Réseaux sociaux).
هذه المنصات لم تعد مجرد فضاءات للتواصل، بل أصبحت مجالًا للتعلم، والتعبير، وتنظيم المبادرات الذاتية (Initiative personnelle)، وتشكيل شبكات التأثير (Réseau d’influence)، ما سمح بإعادة صياغة الهوية الاجتماعية للشباب، التي باتت أكثر استقلالية، وأكثر تحررًا من الأطر التقليدية.
ثالثًا: الوعي الجديد لجيل زد وصعوبة التأثير عليه بالأساليب التقليدية
ينفرد جيل زد بوعي نقدي مرتفع (Esprit critique)، ناتج عن اطلاعه المستمر على المعلومات، واستعماله المنتظم لأدوات التحقق (Fact-checking)، وتفاعله الدائم مع القضايا الوطنية والدولية لحظة بلحظة.
وقد أظهر هذا الجيل قدرة عالية على التمييز بين الخطاب الواقعي والخطاب الإنشائي، ما جعل محاولات التأثير عليه عبر السرديات التقليدية أقل فاعلية. وبات الشباب يقارنون الخطاب الرسمي بالبيانات المتاحة، ويعيدون إنتاج فهم مستقل للواقع الوطني.
رابعًا: التحولات الاجتماعية والسياسية ودور الفضاء الرقمي في توجيه القرار العمومي
لم يعد التفاعل الشبابي عبر المنصات الرقمية مجرد تعبير اجتماعي، بل أصبح عنصرًا مؤثرًا — وإن بدرجات متفاوتة — في صناعة القرار العمومي (Décision publique). وقد أصبحت هذه الظاهرة إحدى العلامات الفارقة على تشكل جيل جديد يمتلك أدوات الضغط والتأثير خارج القنوات التقليدية.
1. تأثير الحملات الرقمية على القرارات الحكومية
شهدت الساحة الوطنية خلال السنوات الأخيرة عدة حوادث تُظهر بوضوح الدور المتنامي لوسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا Facebook وTikTok، في دفع السلطات نحو اتخاذ قرارات معينة أو التراجع عن أخرى.
وتأتي قوة هذه الحملات من طبيعتها الشبابية المنظمة أو شبه العفوية، التي تتشكل بسرعة حول قضية ما، وتفرض نفسها على الخطاب العمومي.
وقد كانت هذه الحملات وراء:
- فتح نقاشات رسمية حول ملفات التعليم والتوظيف.
- تراجع الحكومة عن بعض القرارات المثيرة للجدل بعد موجات انتقاد رقمية.
- دفع مؤسسات عمومية إلى إصدار بيانات توضيحية استجابة لضغط الرأي العام الرقمي.
- لفت انتباه وسائل الإعلام التقليدية إلى قضايا لم تكن مدرجة في جدول اهتمامها.
هذا التأثير — الذي يستند في جوهره إلى ديناميات جيل زد — يعكس انتقال مركز الثقل من الخطاب الرسمي إلى المنصات المفتوحة (Espace numérique ouvert)، حيث يتفاعل الشباب بحرية أكبر ويعيدون ضبط وتيرة النقاشات الوطنية.
2. تشكل مجال عام بديل
ساهم التفاعل المكثف على منصات التواصل في بناء مجال عام رقمي (Espace public numérique) يقوم على:
- تداول سريع للمعلومة.
- نقاشات مفتوحة حول الأداء العمومي.
- تفكيك روايات السلطة والمجتمع.
- إعادة تعريف مفهوم المشاركة السياسية بما يتجاوز الانتخابات التقليدية.
هذا المجال يوفّر لجيل زد قوة تأثير غير مسبوقة، ويجعل المؤسسات أكثر حساسية تجاه ردود الفعل الافتراضية.
خامسًا: مؤشرات دالة على تشكّل جيل زد موريتاني
يمكن إجمال أبرز المؤشرات في:
- اتساع القاعدة التعليمية الشبابية في مختلف الدورات.
- استقلالية الهوية الرقمية وتراجع تأثير البنى التقليدية.
- نضج الوعي النقدي وصعوبة التأثير الدعائي على الشباب.
- ارتفاع المشاركة الرقمية في الشأن العام وتحويل الفضاء الافتراضي إلى أداة ضغط اجتماعي.
- ارتباط الشباب بمفاهيم الشفافية والمحاسبة (Transparence – Redévabilité).
هذه المؤشرات تجعل من جيل زد الموريتاني قوة فاعلة في تشكيل المستقبل السياسي والاجتماعي للبلاد.
ختاما
يمكن القول إن الأوضاع الحالية في موريتانيا — بما فيها توسع التعليم، والتحول الرقمي، وارتفاع الوعي النقدي، ودور الفضاء الافتراضي في تشكيل الرأي العام — تهيّئ بشكل واضح لنشأة جيل زد محلي بخصائصه المميزة.
هذا الجيل بات يمتلك أدوات تأثير حقيقية، وقدرة على إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن، مما يجعله رافعة محتملة لأي تحول تنموي أو سياسي في السنوات القادمة.
——————————-
(محمدن الشيخ)
المراجع
- وزارة التهذيب الوطني وإصلاح النظام التعليمي – الكتاب الإحصائي 2021–2022.
- المركز الوطني للإحصاء (ONS): تقارير قطاع التعليم، 2022.
- وزارة التعليم العالي والبحث العلمي: التقرير الإحصائي للتعليم العالي 2022–2023.
- UNESCO Institute for Statistics – Mauritania Profile (2022).
- World Bank – Mauritania Education Overview (2021–2023).
- Castells, Manuel. La Société en Réseaux.
- Bourdieu, Pierre. Questions de sociologie.
- دراسات محلية منشورة في الصحف الوطنية ومنصات الرأي حول تأثير الحملات الرقمية في القرارات العمومية (2020–2024).

