مقبرة الخبرات… حين تُدفن الطاقات وهي حيّة

 

إلى كل المهتمين بقضايا التعليم والتكوين في وطننا العزيز، أودّ أن ألفت الانتباه إلى ظاهرة خطيرة أصبحت ـ للأسف ـ جزءًا من الثقافة الإدارية: ظاهرة "مقبرة الخبرات" أو ما يُعرف عاميًا بـ "اكْراج".

هذه الممارسة تقوم على إحالة موظف يمتلك خبرة عالية وكفاءة ميدانية نادرة إلى ديوان الوزير أو إحدى الإدارات المركزية، بحجة الاستفادة من تجاربه. لكن الواقع عكس ذلك تمامًا؛ إذ يتم ركنه دون تكليف، وتركه في دائرة الانتظار حتى يذوب اسمه مع الأوراق ويصل به الزمن مباشرة نحو التقاعد.

إن هذه الظاهرة ليست مجرد سلوك إداري عابر، بل هي معضلة وطنية:

1. إعدام الخبرة قبل أوانها

عندما نُهمّش موظفًا قضى سنوات في بناء الكفاءات وتطوير البرامج، فنحن في الحقيقة نُطفئ مصباحًا كان يمكن أن ينير مؤسساتنا، ونفقد تراكمًا معرفيًا لا يمكن تعويضه بسهولة.

2. خسارة وطنية لا تُقدَّر بثمن

تكوين الخبرات يكلف الدولة سنوات من التجربة والتكوين والإنفاق، ثم تأتي لحظة إدارية خاطئة لتضع تلك الخبرة في الرف…
وهذا أشبه ما يكون بدفن كنز ثمين دون الاستفادة منه.

3. إحباط نفسي ومهني

الموظف الذي يُركن في الديوان بلا مهام يُصاب بالإحباط، ويشعر أنه عقوبة غير معلنة رغم أنه لم يرتكب ذنبًا سوى أنه عمل بإخلاص.

4. تعطيل الإصلاح وتعقيد العمل المؤسسي

كل مشروع إصلاحي يحتاج إلى العقول التي تحمل ذاكرة المؤسسة وخبراتها، وعندما يُقصى هؤلاء، تبدأ المؤسسات من جديد كل مرة، وهذا ما يخلق:
– ضعف الاستمرارية
– كثرة الأخطاء
– غياب التراكم
– بطء التطور

5. ثقافة يجب أن تُدفن، لا أن تُمارس

أخطر ما في الأمر أن هذه الظاهرة أصبحت عادة إدارية طبيعية:
كلما ظهر موظف متمكن، صاحب رأي صريح أو رؤية واضحة…
يتم إبعاده إلى “الاكراج” بدل الاستفادة منه.

دعوتنا اليوم

نحتاج إلى إصلاح جذري في أسلوب إدارة الموارد البشرية في الدولة، يقوم على:

الاستفادة من الخبرات بدل تغييبها
وضع الكفاءات في المواقع التي تناسب مؤهلاتها
تقييم موضوعي لأداء الأفراد
حماية الموظفين من التهميش التعسفي
تفعيل آليات المساءلة الإدارية في التعيينات والتحويلات

إنّ دفن الخبرات وهي حيّة ليس ظلمًا لأصحابها فحسب، بل ظلم للوطن قبل كل شيء.
وإذا أردنا قطاعًا تعليميا وتكوينيا قويًا، فيجب أن نبدأ بإكرام أهل الخبرة، لا إقصائهم.

أحمدو سيدي محمد الكصري 
خبير وطني في التوجيه المهني 
وهندسة التكوين

اثنين, 01/12/2025 - 21:07