
صادق مجلس الوزراء في اجتماعه الأخير على إنشاء وكالة وطنية مكلفة بالتعليم التقني والتكوين المهني، تضم المعهد الوطني لترقية التكوين التقني والمهني وتسعة عشر مدرسة قائمة للتكوين الفني والمهني عبر البلاد. وهو قرار في ظاهره إداري، لكنه في جوهره خيار استراتيجي قد يرسم ملامح مستقبل التشغيل والتنمية، إمّا في اتجاه الإصلاح الحقيقي، أو نحو تعميق الأعطاب القائمة.
لا يختلف اثنان على أن قطاع التكوين التقني والمهني ظل لسنوات طويلة الحلقة الأضعف في منظومة التعليم، رغم كونه الأكثر ارتباطًا بسوق العمل، والأقدر على امتصاص البطالة، وخلق يد عاملة مؤهلة تواكب حاجيات الاقتصاد الوطني. لذلك فإن توحيد الجهود، وتجميع المؤسسات المتناثرة تحت مظلة وكالة وطنية واحدة، يُعد خطوة جريئة وضرورية لكسر منطق التسيير المجزأ، وتجاوز ازدواجية القرار، وهدر الموارد.
لكن الخطورة – وكل الخطورة – لا تكمن في فكرة إنشاء الوكالة، بل في كيفية تجسيدها على أرض الواقع، وعلى رأسها مسألة تعيين المدير العام. فهنا تحديدًا، يتحول القرار من فكرة رائعة لإصلاح المنظومة إلى كارثة وطنية إن أُسندت المسؤولية إلى أحد “أساطين السياسة” الذين اعتادوا إدارة الملفات بعقلية الولاء لا الكفاءة.
إن التكوين المهني ليس حقيبة سياسية، ولا مجالًا للمجاملات أو تقاسم الغنائم. إنه قطاع تقني بامتياز، يتطلب قيادة تفهم خصوصيات المهن، وآليات التكوين، ومتطلبات السوق، وعلاقة المؤسسة التكوينية بالمقاولة، وبالابتكار، وبالتشغيل. مدير عام بلا دراية ميدانية، ولا تجربة في هذا المجال، سيحوّل الوكالة إلى إدارة بيروقراطية جديدة، تستهلك الميزانيات دون أثر، وتعيد إنتاج نفس الإخفاقات بأسماء مختلفة.
على العكس من ذلك، فإن تعيين شخصية مهنية مشهود لها بالكفاءة والخبرة في التكوين المهني يمكن أن يجعل من هذه الوكالة قاطرة إصلاح حقيقية: تحديث البرامج، ربط التكوين بحاجيات الاقتصاد، تأهيل المكونين، إدخال التكوين بالتناوب، والانفتاح على الشراكات مع القطاع الخاص. عندها فقط يصبح القرار استثمارًا في الإنسان، لا مجرد تعديل في الهياكل.
إن الرأي العام اليوم مدعو لليقظة، وللمطالبة بأن يُستكمل هذا القرار بشروط نجاحه، وأهمها الكفاءة، والنزاهة، والاستقلالية عن الحسابات السياسية الضيقة. فالتجارب السابقة علمتنا أن الهياكل لا تصنع الإصلاح، بل الرجال والنساء الذين يقودونها.
باختصار، نحن أمام مفترق طرق:
إمّا وكالة وطنية تُدار بعقل مهني فتُصلح المنظومة،
وإمّا وكالة تُدار بعقل سياسي فتُضاف إلى قائمة الإخفاقات.
والاختيار، هذه المرة، يجب أن يكون في صالح الوطن لا في صالح السياسة.
سيد احمد اعل

