صون كرامة القاضي /سيدي محمد محمد الشيخ

 

تتزايد أعداد القضاة الذين، ما إن يُحالوا إلى التقاعد، حتى ينتسبوا إلى مهنة المحاماة، وغالبًا ما يكون الدافع إلى ذلك دافعًا ماديًا بحتًا، إذ لا يكفي معاش التقاعد لسد الحاجيات اليومية والعيش بكرامة. وهذه الظاهرة، وإن كانت مفهومة من زاوية اجتماعية واقتصادية، فإنها تثير إشكالات عميقة تمسّ مكانة القضاء وهيبة العدالة.

فالقاضي لا يُحال إلى التقاعد إلا بعد بلوغه السن القانونية، وهي مرحلة عمرية يفترض أن تكون مرحلة استقرار وهدوء، يُتاح فيها له أن ينصرف إلى حياته الخاصة، وأن ينعم بالراحة بعد سنوات طويلة من العمل المضني، قضّاها بين الملفات الشائكة والنزاعات المعقدة، متحملًا أعباء جسيمة ومسؤوليات ثقيلة باسم العدالة والمجتمع.

غير أن الواقع يكشف عن مفارقة مؤلمة: قاضٍ أفنى عمره في خدمة العدالة، يجد نفسه بعد التقاعد مضطرًا إلى البحث عن مورد رزق إضافي، فيعود إلى أروقة المحاكم من بوابة المحاماة. وهنا يبرز السؤال الجوهري: أليست كرامة القاضي جديرة بأن تُصان بعد خدمته، كما صينت – أو كان يفترض أن تُصان – أثناء أدائه لمهامه؟

إن صون كرامة القاضي يقتضي، في المقام الأول، منحه معاشًا تقاعديًا لائقًا يكفل له العيش الكريم، دون حاجة إلى مدّ يده أو البحث عن بدائل قد تمسّ بصورة مباشرة أو غير مباشرة مكانته الاعتبارية. وفي المقابل، فإن من غير المقبول، من حيث المبدأ، السماح للقاضي المتقاعد بممارسة مهنة المحاماة، لأن في ذلك مساسًا بهيبة القضاء، وإحراجًا بالغًا لزملائه الذين سيجدون أنفسهم أمام من كان بالأمس القريب يجلس على منصة الحكم.

إن خروج القاضي من منصة القضاء ثم عودته إلى نفس المحاكم بصفته محاميًا يُشبه الخروج من الباب ثم العودة من النافذة؛ وهو وضع لا يليق بالقاضي ولا بالمؤسسة القضائية، لما يحمله من دلالات سلبية تمسّ الثقة العامة في العدالة، وتفتح الباب للتأويل والريبة، ولو من دون مبرر موضوعي.

ثم إن الأعداد المتزايدة للقضاة المتقاعدين الذين يعودون إلى المحاكم عبر المحاماة تستدعي وقفة جادة للتفكير في آثار هذه الظاهرة. فهي لا تمثل فقط إساءة لمكانة القاضي، بل قد تُسيء كذلك إلى مهنة المحاماة نفسها، حين تتحول – في نظر البعض – إلى ملاذ للمتقاعدين الذين أنهكتهم السنين، وأضعفت قدرتهم على العطاء المهني المتجدد الذي تتطلبه المرافعة والدفاع.

إن العدالة لا تقوم إلا برجالها، وصون كرامة القاضي هو صون لهيبة القضاء ذاته. ومن ثمّ، فإن أي إصلاح حقيقي للمنظومة القضائية يجب أن يبدأ من ضمان عيش كريم للقاضي بعد تقاعده، مقرونًا بقواعد واضحة تمنع الخلط بين الوظائف، وتحفظ لكل مهنة مكانتها، وللقاضي وقاره، وللعدالة هيبتها .
سيدي محمد محمد الشيخ

أحد, 28/12/2025 - 00:33