الاختلالات البنيوية في النظام القضائي الموريتاني: التشخيص والإصلاح

 

مقدمة

يلعب النظام القضائي دورًا محوريًا في ترسيخ سيادة القانون، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان الاستقرار السياسي. وفي موريتانيا، وعلى الرغم من الجهود المتعددة لإصلاح المنظومة القضائية منذ التحول الديمقراطي مطلع التسعينيات، فإن هذه المنظومة لا تزال تعاني من اختلالات بنيوية عميقة تؤثر سلبًا على أدائها وعلى ثقة المواطنين بها.

وقد عبّر فخامة رئيس الجمهورية، في أكثر من مناسبة، عن عزمه الراسخ على إصلاح القضاء باعتباره أساسًا لأي تحول تنموي، وإصلاحًا مفصليًا ضمن مشروع الدولة العادلة التي تصون الحقوق وتكافئ الاستحقاق. وتُعد هذه الإرادة السياسية الصادقة عنصرًا جوهريًا في الدفع بالمسار الإصلاحي، خاصة في قطاع حساس كالقضاء.

إن إصلاح المنظومة القضائية لا يصب فقط في مصلحة المواطن، بل يشكل أيضًا ضمانة لحقوق المقيمين، ومرتكزًا أساسيًا لتعزيز ثقة الشركاء الدوليين والمستثمرين في بيئة الأعمال الوطنية، حيث لا يمكن جذب الاستثمار ولا تعزيز النمو في ظل قضاء هش أو مسيّس أو بطيء.

________________________________________

أولاً: تأصيل تاريخي وتنظيمي للنظام القضائي الموريتاني

منذ تأسيس الدولة الموريتانية الحديثة عام 1960، شهد الجهاز القضائي مراحل متباينة بين البناء والتقويض، حيث تأثر مساره بشدة بعلاقة السلطة التنفيذية بالسلطة القضائية. وقد بدأ القضاء بهيئات محلية مستلهمة من النموذج الفرنسي، قبل أن تتطور إلى محاكم مدنية وشرعية، ثم جنائية.

مع دستور 1991، أُطلقت إصلاحات قانونية لتكريس استقلالية القضاء، مثل إنشاء المجلس الأعلى للقضاء وتعزيز الضمانات القانونية للقضاة، إلا أن هذه الإصلاحات ظلت محدودة في الأثر بسبب غياب الاستمرارية، وتقلّب السياسات العمومية مع تغيّر الأنظمة والوزراء.

________________________________________

ثانيًا: تشخيص الاختلالات البنيوية في النظام القضائي

1. اختلالات في التنظيم القضائي

يعاني التنظيم القضائي من تضخم غير متوازن في الهرم القضائي، حيث تتكدس القضايا في المحاكم العليا والمركزية، مقابل نقص حاد في المحاكم المختصة بالمناطق الداخلية، ما يؤدي إلى ضعف ولوج العدالة للمواطنين في تلك المناطق.

كما تعاني الإدارة القضائية من مركزية مفرطة في اتخاذ القرارات، مما يعرقل مرونة وسرعة الإجراءات ويثقل كاهل السلطة المركزية.

إضافة إلى ذلك، لا تزال البنية التحتية ضعيفة والرقمنة شبه غائبة، وهو ما يجعل الأرشفة اليدوية والإجراءات الورقية عقبة أمام السرعة والشفافية.

2. التأثير السياسي على القضاء

تُسجَّل تدخلات سياسية في تعيين وترقية القضاة، مما يقوض مبدأ استقلال القضاء. كما أن غياب معايير شفافة وموضوعية للمسار المهني للقضاة يفتح الباب أمام الولاءات والتدخلات، ويُضعف ثقة الجسم القضائي نفسه في المنظومة.

3. العدالة الداخلية داخل الجهاز القضائي

يشهد الجهاز القضائي تفاوتًا في الامتيازات والمهام، حيث تحظى فئات معينة بامتيازات مادية أو إدارية دون غيرها، ما يولد شعورًا بالغبن ويفقد المنظومة انسجامها الوظيفي. كما أن ضعف آليات الإنصاف الداخلي يؤثر سلبًا على الروح المهنية.

4. ازدواجية المعايير في التطبيق

تعاني العدالة من غياب توحيد في تطبيق القوانين، حيث تختلف الأحكام والإجراءات من قاضٍ لآخر ومن محكمة لأخرى، مما يُقوّض مبدأ المساواة أمام القانون ويؤدي إلى شيوع الانطباع بأن العدالة انتقائية أو خاضعة للاجتهادات غير المتجانسة.

5. تهميش الفاعلين المهنيين

لا يحظى المحامون والكتاب والخبراء القضائيون بتمثيل حقيقي في رسم السياسات القضائية أو المشاركة في مشاورات الإصلاح، مما يكرّس النظرة العمودية للعمل القضائي ويحرم الإصلاح من مدخلات مهنية حيوية.

6. تهميش الكفاءات من أعوان القضاء

يُلاحظ غياب سياسة تحفيزية واضحة لأعوان القضاء، وندرة التكوين المستمر لهم، وتهميش هيئاتهم التي تمثلهم وغياب الدعم الموجه لها، وذلك رغم دورهم المحوري في ضمان سير العمل اليومي بالمحاكم. هذا التهميش يُضعف الأداء العام ويقلل من الجودة المهنية للعمل القضائي.

7. ضعف التوازن داخل الإدارات المركزية

تتركز صناعة القرار والتخطيط القضائي في يد القضاة تقريبا، دون إشراك المهن القضائية الأخرى، وهو ما يؤدي إلى رؤية ناقصة وانعدام المقاربات التشاركية في التخطيط والتنفيذ داخل القطاع.

8. تقلّب السياسات العمومية

تعاني المنظومة من غياب رؤية وطنية مستقلة واستراتيجية دائمة لإصلاح القضاء، حيث تتغير التوجهات بتغير الوزراء والأنظمة، ما يعيق البناء المؤسسي المستدام ويمنع تراكم التجارب والخبرات.

ثالثًا: حلول مقترحة لإصلاح القضاء

أ. حلول فورية

• تفعيل هيئة إصلاح مستقلة تخضع مباشرة لرئاسة الجمهورية لضمان النزاهة والحياد في التوجيه والمتابعة.

• توسيع المحاكم الجهوية وإحداث محاكم متخصصة (إدارية، تجارية، أسرية) لضمان سرعة البت وجودة التخصص.

• تجميد التعيينات غير الشفافة وإعادة النظر فيها من خلال لجنة مهنية مستقلة تضمن تكافؤ الفرص والجدارة.

• فتح حوار مهني شامل مع المحامين والكتاب والخبراء حول تحسين ظروف العمل، وتطوير الأداء، ومراجعة الأجور.

ب. حلول متوسطة الأجل

• إصلاح شامل لقوانين المحاماة والخبرة القضائية، ليتسنى دمج هذه المهن في هيكلة العدالة بشكل فعّال.

• تحديث نظام اكتتاب وترقية القضاة على أساس الكفاءة والنزاهة والشفافية.

• إنشاء معهد وطني للقضاء متعدد التخصصات، يعنى بالتكوين الأولي والمستمر، ويضمن مهنية عالية للمخرجات القضائية.

• تحديد جدول موحد للأتعاب وتوزيع عادل للملفات للحد من التفاوت وضمان العدالة المهنية.

• بلورة استراتيجية وطنية مستقلة للعدالة، يشرف عليها مرصد دائم يتابع تنفيذ السياسات ويقوّم الانحرافات.

________________________________________

رابعًا: دروس من التجارب المقارنة

• المغرب: أطلق إصلاحًا عميقًا توّج بإنشاء "السلطة القضائية المستقلة" سنة 2017، والتي تُشرف على القضاء بعيدًا عن السلطة التنفيذية.

• تونس: أسهمت "هيئة الحقيقة والكرامة" في كشف مظالم الماضي وتعزيز الشفافية في العمل القضائي، وأبرزت أهمية المصالحة المؤسسية.

خاتمة

إن إصلاح القضاء الموريتاني هو حجر الزاوية في بناء دولة القانون الحديثة، وضمان حقوق المواطنين والمقيمين، وخلق بيئة آمنة وشفافة للاستثمار، مثلما عبر عن ذلك صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني في أكثر من مناسبة.

ولا يمكن لهذا الإصلاح أن يتحقق إلا عبر إرادة سياسية مستمرة، ومشاركة شاملة من مختلف الفاعلين القانونيين، وإنشاء جهة مستقلة تتولى التنزيل الفعلي للوثيقة الوطنية لإصلاح العدالة، وترصد مدى انسجام السياسات العمومية معها.

فلا عدالة بلا قضاء قوي،

ولا تنمية بلا أمن قانوني،

ولا دولة حديثة دون مؤسسات تحترم القانون وتخضع للمساءلة.

محمد فاضل الهادي / رئيس التجمع المهني للخبراء القضائيين الموريتانيين

خبير قضائي مختص في الموارد البشرية ونظم المعلومات

حاصل على شهادة الماستر من المدرسة العليا للموارد البشرية بباريس

نواكشوط بتاريخ 03/05/2025

سبت, 03/05/2025 - 17:00