المعهد العالي للقضاء والمهن القضائية: قراءة تحليلية في مرسوم الإنشاء وآفاق التسيير

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يمثل إصلاح منظومة العدالة أحد أبرز التحديات التي تواجه الدولة الحديثة، لما له من أثر مباشر على تعزيز دولة القانون وحماية الحقوق والحريات وضمان الأمن القانوني والقضائي.

      وفي هذا السياق، جاء صدور المرسوم رقم 074-2025 بتاريخ 4 يونيو 2025 القاضي بإنشاء المعهد العالي للقضاء والمهن القضائية ليعكس إرادة سياسية واضحة في تحديث البنية المؤسسية للتكوين القضائي، وتطوير كفاءات الفاعلين في حقل العدالة.

     لقد كان لوزارة العدل، بقيادة معالي الوزير د/ محمد محمود ولد بيّ ، دورا محوريا في الدفع بهذا المشروع إلى حيز الوجود، في إطار رؤية إصلاحية شاملة تسعى إلى تجويد الأداء القضائي، ورفع مستوى التكوين والتأهيل، واستيعاب التحولات المتسارعة التي يعرفها العالم في ميدان القضاء والعدالة.

      إن استحداث هذا المعهد يمثل إذن ثمرة من ثمار الجهود المبذولة لإعادة هيكلة منظومة التكوين القضائي، وضمان جيل جديد من القضاة وأعوان العدالة المؤهلين علميًا وعمليًا.

أولا : الإطار القانوني والمؤسسي للمرسوم

     حدد المرسوم في مادته الأولى الطبيعة القانونية للمعهد، باعتباره مؤسسة عمومية ذات طابع إداري (Établissement Public à caractère Administratif – EPA)، تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي، مع خضوعها لوصاية وزير العدل. وبذلك يكرس المرسوم ازدواجية في التسيير: استقلالية مالية وإدارية من جهة، وإشراف وزاري من جهة أخرى.

     أما المقر الرسمي للمعهد فقد تحدد في نواكشوط الغربية، مع إمكانية نقله إلى أي مكان آخر داخل التراب الوطني، وهو ما يمنحه مرونة جغرافية دون أن يخرجه عن النطاق الوطني.

ثانيا: المهام الجوهرية للمعهد

     جاءت المادة 3 لتحدد بدقة وظائف المعهد، والتي يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور رئيسية:

  1. التكوين: يشمل التكوين الأولي والمستمر للقضاة، وكتاب الضبط، وموظفي السجون، فضلًا عن تكوين المحامين والموثقين والعدول والخبراء وغيرهم من المهن المرتبطة بالقضاء.
     
  2. البحث العلمي: نشر المعرفة القضائية والقانونية، وتشجيع الدراسات والبحوث ذات الصلة.
     
  3. المساهمة في الإصلاح: عبر عصرنة النظام القضائي ورفع كفاءته، بما يواكب التحولات التشريعية والمؤسسية.
     

     إن جمع هذه المهام في مؤسسة واحدة يعكس رغبة المشرّع في جعل المعهد ليس فقط مركزًا للتكوين، بل أيضًا رافعة إصلاحية شاملة.

 ثالثا: الهيكلة المؤسسية للمعهد

     تميّز المرسوم بوضع هيكلة متكاملة تتألف من عدة أجهزة:

  1. مجلس الإدارة: يُعنى بالسياسة العامة، والمصادقة على الميزانية، وتنظيم الامتحانات والبرامج، ويضم ممثلين عن القضاء والجامعات والوزارات ذات الصلة، إضافة إلى ممثل للطلاب.
     
  2. الإدارة العامة: يقودها مدير عام يساعده مدير مساعد، مع قطاعات متخصصة في التكوين الأولي والمستمر، والبحث والتوثيق، فضلًا عن المحاسبة.
     
  3. مجلس التوجيه التربوي والعلمي: يتولى تحديد البرامج والمناهج، ويقوم بالتقييم الدوري واقتراح الإصلاحات.
     
  4. مجلس التأديب: مختص في النظر في المخالفات التأديبية الصادرة عن التلاميذ أو الموظفين.
     

     هذه الهيكلة تعكس توازنًا بين البعد الإداري والأكاديمي والانضباطي، بما يضمن شمولية التسيير.

رابعا: الموارد البشرية والمالية

     من حيث الموارد البشرية، نص المرسوم على اعتماد طاقم إداري وتعليمي يخضع لأحكام قانون الشغل، أو يتم انتدابه من موظفي الدولة. ويتيح ذلك للمعهد مرونة في الاستعانة بالكفاءات، سواء من داخل القطاع العام أو خارجه.

أما من الناحية المالية، فقد حدد المرسوم الموارد في:-

  • اعتمادات مدرجة في ميزانية الدولة؛
     
  • الدعم الوطني والدولي؛
     
  • الهبات والتبرعات.
     

     ويتولى المدير العام وظيفة الآمر بالصرف، بينما يتولى المحاسب إعداد البيانات المالية، مما يضمن وجود فصل نسبي بين وظائف القرار المالي ووظائف التنفيذ.

خامسا : الأحكام الانتقالية والتنظيمية

     خصص المرسوم فصلاً للأحكام الانتقالية، نص على انتقال مهام التكوين من المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء إلى المعهد الجديد، مع نقل البرامج والمناهج وأدلة التدريب، وذلك لتأمين استمرارية التكوين وعدم حصول فراغ مؤسسي. كما نص على إكمال الطلاب الذين هم قيد التكوين في المدرسة لتكوينهم وفق أنظمتها، قبل انتقالهم إلى المعهد.

سادسا: المقاربة التحليلية

1. الإيجابيات

  • توفير إطار قانوني واضح ومستقل للتكوين القضائي.
     
  • إشراك مختلف الفاعلين في الحقل القضائي في أجهزة المعهد، مما يعزز الشفافية والتعددية.
     
  • الجمع بين التكوين والبحث والمساهمة في الإصلاح القضائي.
     

2. التحديات

  • يشكل إنشاء معهد عالٍ مستقل للتكوين في القضاء والمهن القضائية، بعد فصل هذا الاختصاص عن المدرسة الإدارية متعددة التخصصات، تحديًا مؤسساتيًا حقيقيًا يتمثل في بناء نموذج أكاديمي متخصص من الأساس، مع ضرورة تحقيق توازن بين الاستقلالية العلمية والاستفادة من الدعم العمومي.
     
  • ضعف النصوص المتعلقة بضمان الجودة والتقييم المستقل.
     
  • الاعتماد المالي الأساسي على ميزانية الدولة، مما قد يؤثر على استدامة موارده.
     

سابعاً : النموذج التسييري المقترح

لضمان نجاح المعهد، يقترح اعتماد نموذج تسييري يقوم على:

  1. الفصل بين الوظائف: بحيث يتولى مجلس الإدارة المهام الإدارية والمالية، فيما يركز مجلس التوجيه على البرامج الأكاديمية.
     
  2. تعزيز الاستقلالية الأكاديمية: عبر إحداث لجنة داخلية للجودة والاعتماد الأكاديمي ترتبط مباشرة بمجلس التوجيه العلمي.
     
  3. تنويع مصادر التمويل: من خلال التكوين المستمر المدفوع لفائدة المهن القضائية الحرة، وإبرام شراكات دولية مع معاهد القضاء في المنطقة العربية والفرنكوفونية.
     
  4. الرقابة والتقييم: إرساء تقارير سنوية علنية عن أنشطة المعهد، وتقييم دوري للبرامج من قبل خبراء مستقلين.
     

الخاتمة

     إن المرسوم المنشئ للمعهد العالي للقضاء والمهن القضائية يشكل خطوة استراتيجية في مسار إصلاح منظومة العدالة، ويعكس رؤية متقدمة لوزارة العدل في الرفع من مستوى التكوين والتأهيل. ويُحسب لمعالي وزير العدل دوره الفعّال في استصدار هذا المرسوم، ومتابعته المستمرة لمسار إصلاح العدالة، بما يعزز ثقة المواطنين في القضاء ويرسخ أسس دولة القانون.

     ويبقى نجاح هذا المشروع رهينًا باعتماد نموذج تسييري فعّال، يزاوج بين الاستقلالية والرقابة، وبين التكوين الأكاديمي والمهنية العملية، ويضمن استدامة مالية وانفتاحًا على الشراكات الدولية. هكذا، يمكن للمعهد أن يتحول إلى قاطرة الإصلاح القضائي، ومركز إشعاع علمي ومهني يسهم في ترسيخ العدالة الناجزة والعادلة

 

أربعاء, 03/09/2025 - 09:34