
يُقال إنه بعد صلاة الجماعة يُقبّل الشيطان من خرج أولًا، وربما الثاني أو الثالث. ولا شك أن تسمية وزارة الدفاع في الولايات المتحدة بوزارة الحرب، والتخبط الاقتصادي الذي تشهده إنكلترا وفرنسا، وما يشهده العالم بأسره، كلها شواهد على أن النظام الدولي الذي كان قائمًا يفقد توازنه ويدخل في مرحلة من الفوضى.
شهد العالم في السنوات الأخيرة تحوّلات عميقة تعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية والاقتصادية على نحو غير مسبوق. فالدول الغربية تعيش أزمات اقتصادية خانقة قد تُعيد معها ممارسات استعمارية بوسائل جديدة. هذه الأزمات قد تؤدي إلى تهجير واسع للأجانب من أوروبا، مع توجه نحو سياسة هجرة معاكسة تفتح الباب أمام البحث عن عمالة رخيصة في إفريقيا، لا عبر استقدامها، بل من خلال إنشاء مصانع محلية تستنسخ التجربة الصينية في القارة، بهدف منافسة الصين في الأسواق العالمية.
في الوقت ذاته، ربما يتجه الغرب إلى اعتماد قروض داخلية دون فوائد ودون ربا، وفي المقابل قروض خارجية بفوائد ربوية، من أجل دعم الاقتصاد فيما أظن، أو إذا كانت في بحث عن حلول جديدة. وهكذا تُعامَل إفريقيا مرة أخرى كمنطقة تستغل ماليًا واقتصاديًا ضمن سياسات مزدوجة المعايير.
هذه الممارسات ليست إلا محاولة لإيجاد توازن داخلي هش وبحث عن نظام مالي عالمي جديد. وفي ظل هذه الاضطرابات الدولية، تحتاج موريتانيا إلى رؤية متوازنة تقوم على الاستقرار السياسي من جهة، والتحكم في الموارد وبناء اقتصاد سيادي من جهة أخرى. فالاستقرار الوطني هو رصيد استراتيجي لموريتانيا في هذا المناخ المليء بالفوضى. فالدول المستقرة صارت عملة نادرة في القارة، ومن الضروري تحصينه من الاختراقات والتأثيرات الخارجية عبر تقوية المؤسسات ومراقبة التحركات المشبوهة، وضمان استقلال القرار السياسي.
أما على مستوى الموارد، فإن موريتانيا بحاجة إلى سياسة واضحة تقوم على تأميم شركات الذهب لضمان حصة سيادية عادلة من العوائد، وتأميم شركات النحاس كخيار استراتيجي في ظل الطلب الدولي على المعادن النادرة، وإنتاج الحديد محليًا بدل تصديره خامًا عبر إنشاء مصانع صهر وصناعات معدنية ثقيلة مرتبطة. وفي الشق الاقتصادي، من غير الممكن أن يستمر النموذج القائم على المضاربة والاستيراد. المطلوب هو اعتماد سياسة اقتصادية داخلية جديدة قائمة على شراكة ذكية بين البنوك والمستثمرين، بحيث تتحمل البنوك جزءًا من الأرباح والخسائر بدل الاكتفاء بالقروض الربوية المجففة. هذا التحول يفتح الباب أمام اقتصاد إنتاجي يُشجع الاستثمار والتنمية بدل الاستهلاك والتبعية.
وفي العلاقات الخارجية، يجب أن تعتمد موريتانيا على صيغة جديدة للشراكة تقوم على ما أسميه بـ "اتاوة التقدم": أي شراكة مبنية على نقل التكنولوجيا والمعرفة مقابل نسبة من الأرباح، بدل النموذج التقليدي الذي يحوّل البلاد إلى مجرد سوق لتصريف المنتجات أو مصدر للمواد الخام. وصحيح أن الجارة المغرب أكثر استعدادًا اليوم لاستقطاب المصانع الأجنبية بفضل بنيتها التحتية المتقدمة، لكن موريتانيا يمكن أن تقدم نفسها كخيار استراتيجي بديل. دخول هذا المجال من باب محاربة الهجرة نحو أوروبا قد يمنحها نقاط قوة إضافية في التفاوض مع الشركاء الدوليين، ويجعلها وجهة جذابة للاستثمار والتصنيع.
الشَّانْ إدورُوهْ أهل الشَّانْ ؤُ يَگْطَعْ لحْدِيدْ الاّ لَحْدِيدْ
تمرّ الأمم عبر لحظات مفصلية من التاريخ، إما أن تتقدّم فيها بخطى شجاعة، أو تتراجع فتدخل دائرة التبعية مجددًا. وموريتانيا اليوم أمام واحدة من هذه اللحظات: عالم يتغيّر بسرعة، موارد وطنية تزداد قيمتها، موقع استراتيجي بالغ الأهمية، وقيادة أمام فرصة نادرة لصنع الفرق.
إن القرار الذي يجب أن يُتخذ الآن في شأن الثروة الوطنية، والسيادة الاقتصادية، والتحصين السياسي لن يكون مجرد قرار حكومي عابر، بل سيكون قرارًا يُخلّده التاريخ، وتُقاس به قيمة القادة ورجال الدولة. فإما أن نكون شعبًا يصنع لحظته ويكتب تاريخه، أو نترك الآخرين يصوغونه نيابةً عنا بثمن ستظل تدفعه الأجيال القادمة.
ملاحظة
لقد أعددت كتابًا بعنوان: "الدكتاتورية المنشودة – نحو نظام حوكمة بديل"، بمثابة رسالة إلى صنّاع القرار والمفكرين وزعماء العالم. كتاب يعالج بعمق هذا الموضوع، ويطرح رؤية مختلفة للحوكمة والسيادة في عالم مضطرب. وإني لأرجو من قيادة البلد الاطلاع عليه ومراجعته، لما يحمله من أفكار قد تُسهم في بلورة سياسات وطنية أكثر صلابة واستقلالية.
محمد الأمين لحويج