
"حين يغيب العدل عن المكاتب، تُصبح القرارات أوامر بلا روح، والإدارة جدران بلا ضمير."
يبدو أن في إداراتنا من لا يزال يعتقد أن العدالة الإدارية يمكنها أن تعمل بوضعية “الطيران الآلي”، دون متابعة أو تقييم، وكأن الأمور تسير بقوة العادة لا بحكمة القيادة. هناك من يظن أن التقارير الورقية تكفي لإقناع الرؤساء بأن “كل شيء على ما يرام”، بينما الواقع يهمس بخلاف ذلك في أروقة المكاتب.
أسئلة نائمة في أدراج المسؤولين
قبل الحديث عن الإصلاح، يحق لنا أن نسأل أصحاب القرار:
كيف تُديرون قطاعاتكم دون متابعة وتقييم حقيقي؟ كيف تعرفون أن موظفًا بسيطًا سُلب حقه دون علمكم؟
ثم، ما هذه الثقة العمياء فيمن تُعيّنونهم؟ تُسلمونهم المفاتيح، وتغادرون مطمئنين، وكأن العدالة ستستيقظ من تلقاء نفسها!
أما تعلمون أنكم ستُسألون يومًا أمام ربّ العالمين عن تلك الأمانة التي تحملونها، يوم لا ينفع مال ولا بنون؟
موت الاجتماعات ودفن الشفافية
يتحدث البعض عن الجودة والحوكمة وكأنها شعارات تزيينية تُعلّق على الجدران لا أكثر.
فكيف تتحقق الجودة والاجتماعات الدورية أُلغيت، والشفافية غابت، والتواصل بين المستويات الإدارية أصبح كالهاتف القديم: طرفٌ واحد يتحدث، والآخر يسمع الصدى؟
في بعض المؤسسات، الموظف يقضي سنوات دون أن يرى مسؤولَه الأول، لأن هناك من يحرس البوابة حتى لا يصل الصوت إلى القمة. وهكذا يبقى المسؤول السامي يعيش في عالم وردي، بينما الواقع من حوله رمادي قاتم.
مسؤولون بلا وقت... والكاميرات حاضرة دائمًا
حين يُسأل أحدهم عن سبب انقطاعه عن العاملين، يجيب ببرود: “ليس لدي وقت لهم.”
عجبًا! أليسوا هم سبب وجودك؟ أليست مشكلاتهم جزءًا من مهامك؟
الوقت موجود، لكنه يُستهلك في لقاءات بروتوكولية وصور تذكارية، بينما أصحاب الميدان ينتظرون مجرد استماع أو تقدير.
الإدارة... مسرح بلا مخرج
في ظل هذا الغياب، تتحول بعض المؤسسات إلى مسرح إداري ساخر:
الممثلون يجيدون أدوارهم، النص محفوظ، المخرج غائب، والجمهور — أي الموظفون — فقدوا الرغبة في التصفيق.
الديكور لافت: شعارات عن الجودة، وملصقات عن النزاهة، لكن خلف الستار فوضى وأدوار معكوسة.
من يجتهد يُتَّهم بالتمرد، ومن يصمت يُكافأ، ومن يبتسم يُحسب على “تيار” لا يعرفه هو نفسه!
كلمة إلى القراء والزملاء في القطاع
أعذر كل من يقرأ كلماتي في مجال التكوين التقني والمهني، فخلال هذه الفترة أحاول أن أميط اللثام عن بعض الحقائق، لا حبًا في النقد بل رغبة في الإصلاح.
ما أكتبه ليس ضد الأشخاص، بل صفارة إنذار لمن لا يزال يغطّ في سباته الإداري العميق.
وأعلم أن الكثير من الزملاء يتحاشون التعليق خوفًا من الرقابة، ولهم كل العذر، فالصمت في زمن الخوف نوع من الحكمة.
يكفيني أن أرى في وجوههم ابتسامة تقول بصوت خافت: “صدقت.”
فذلك وحده يكفي لأن أشعر أن كلمتي وصلت، وأن الحقيقة — ولو همسًا — وجدت طريقها إلى الأذهان.
خاتمة... حين يصحو الضمير الإداري
الظلم الإداري لا يُواجه بالشعارات، بل بصحوة الضمير ومراجعة الذات.
فحين يستيقظ العدل في المكاتب، تزدهر الكفاءات، وتنتعش المؤسسات، وتُبنى الثقة من جديد.
أما حين يبقى الظلم سيد القرار، فسيظل الإصلاح مجرّد ورق جميل يطير في مهب الريح، بينما الواقع يزداد انكسارًا.
"أنا لا أكتب لأُدين أحدًا، بل لأوقظ في كل مسؤولٍ إنسانيته."
انواكشوط بتاريخ 21 اكتوبر 2025
بقلم: أحمدو سيدي محمد الكصري
خبير في هندسة التكوين
مستشار في التكوين والتوجيه المهني

