
عرفت موريتانيا خلال العقود الأخيرة سلسلة من التحولات الاقتصادية التي طبعها تدخل المؤسسات المالية الدولية وتبنّي سياسات “الإصلاح الاقتصادي” و”التحرير المالي”، التي كان من أبرز نتائجها تراجع الدور السيادي للدولة في ضبط السوق، وانكشاف العملة الوطنية أمام تقلبات العملات الأجنبية. هذه التحولات، التي قُدمت يومها كخطوات ضرورية نحو التحديث والانفتاح، أفضت في الواقع إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطن الموريتاني، وإلى اتساع الهوة بين الأسعار والدخول بشكل غير مسبوق.
من الخصخصة إلى تعويم العملة: مسار مليء بالمخاطر
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وجدت موريتانيا نفسها أمام ضغط كبير من مؤسسات مالية دولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذين اشترطا جملة من “الإصلاحات الهيكلية” مقابل الحصول على قروض ومساعدات مالية. كان من بين هذه الشروط تقليص دور الدولة في الاقتصاد، وخصخصة المؤسسات العمومية، وفتح السوق أمام المنافسة، وربط العملة الوطنية ـ الأوقية ـ بالعرض والطلب بدل تثبيتها بسياسة نقدية محكمة.
ورغم ما رُوِّج له من مزايا هذا الخيار، إلا أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي أظهر وجهه الآخر: اقتصاد هش، تابع للأسواق الخارجية، وعملة وطنية متروكة لمضاربات البنوك وتذبذب أسعار العملات الصعبة، خصوصا اليورو والدولار. ومع غياب سياسات حماية فعالة، أصبحت الأوقية تفقد جزءاً من قيمتها يوما بعد يوم، ما انعكس مباشرة على الأسعار وغلاء المعيشة.
تدهور القدرة الشرائية وتفاقم الفوارق الاجتماعية
لم يكن المواطن الموريتاني العادي في منأى عن هذه التحولات. فالموظف الصغير، والعامل البسيط، وحتى التاجر المحلي، باتوا جميعا يواجهون معضلة مشتركة: الأسعار ترتفع بوتيرة أسرع من الدخول.
فالسلع الأساسية ـ من مواد غذائية ووقود وأدوية ـ أصبحت تسعَّر بالعملة الصعبة، مما جعل الأسعار المحلية رهينة لتقلبات الأسواق الدولية. ومع تراجع الدعم الحكومي وارتفاع الضرائب غير المباشرة، أصبحت الحياة اليومية أكثر صعوبة.
تُظهر المؤشرات أن القوة الشرائية شهدت تآكلاً مستمراً، إذ باتت الرواتب الشهرية عاجزة عن تغطية أبسط الحاجات الأساسية، بينما تستفيد قلة محدودة من النخبة الاقتصادية من نظام مالي غير متكافئ، زاد من حدة التفاوت الطبقي والاجتماعي.
العملة الوطنية بين السيادة والارتهان
ترك الأوقية لآليات “العرض والطلب” لم يكن مجرد قرار اقتصادي، بل هو في جوهره قرار سيادي له تبعات سياسية واجتماعية عميقة. فعندما تفقد الدولة قدرتها على ضبط سعر عملتها، تفقد معها جزءاً من سيادتها الاقتصادية، وتصبح رهينة لتقلبات خارجية لا تملك السيطرة عليها.
هذا الارتهان يعكس اعتماد البلاد المفرط على الواردات، وضعف الإنتاج المحلي، وعجز السياسات النقدية عن خلق توازن بين قيمة العملة ومعدل التضخم ومستوى المعيشة.
إن استمرار هذا المسار يهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد. فبدون إعادة نظر جذرية في السياسة النقدية، وتعزيز الإنتاج المحلي، وحماية العملة الوطنية من المضاربات، سيظل المواطن الموريتاني الحلقة الأضعف في معادلة اقتصادية غير متكافئة.
لقد آن الأوان لأن يُعاد النظر في تلك “الإصلاحات” التي وُصفت يوماً بأنها ضرورية، بينما كانت في الواقع مجرد وصفة جاهزة لم تراعِ خصوصية الاقتصاد الوطني، ولا حاجات المجتمع الموريتاني .
محمد محمد الشيخ

