
مقاربة سوسيولوجية–سياسية
بداية
يقدّم هذا النص - الذي يتجنب أي نبرة صدامية - قراءة تحليلية موسّعة لبنية الخطاب الرئاسي الأخير من زاوية تجمع بين علم الاجتماع السياسي وفلسفة الدولة والقانون الدستوري، مع مراعاة خصوصيات سياقات البلد المصنّف ضمن دائرة " الدول النامية États en Développement".
ففي بيئات مثل هذه الدول ، يستمر التفاعل بين أنماط السلطة التقليدية ومؤسسات الدولة الحديثة ضمن مسار لم يكتمل بناؤه، بينما تبقى التوازنات الداخلية هشّة، وهوما يجعل الخطاب السياسي أحد أهم الأدوات الضابطة لمسار الانتقال والتحكّم في النخبة .
تستند الدراسة لإسهامات و نظريات كبار المفكّرين من ابن خلدون وأفلاطون وميكيافيللي وهيغل وهوبز وماركس وإنجلز وماكس فيبر، إلى المقاربات الحديثة المتعلقة ب " التآكل الدستورى ، الإنتقال المنظم و القيادة المركَّزة Érosion Constitutionnelle، Transition Contrôlée، Leadership Centralisé" . و ذلك من خلال المحاور التالية :
المحور الأول: مرتكزات السلطة في الدولة النامية – قراءة في النظريات الكلاسيكية والمعاصرة
1. ابن خلدون: العصبية واستبقاء الدولة
يرى ابن خلدون أن السلطة لا تثبت دون “عصبية جامعة”، وأن بوادر التصدع الداخلي تُعدّ المؤشر الأكبر لبدء الضعف. ويأتي تركيز الخطاب على نفي “الخلافات داخل النظام” منسجماً مع هذا المنطق؛ فالدولة التي لم تكتمل مؤسساتها تنظر إلى الانسجام الداخلي بوصفه شرطاً لبقائها.
2. ميكيافيللي: غلق منافذ التنازع داخل السلطة
يُشدّد ميكيافيللي في كتابه الأشهر "الأميرLe Prince "على ضرورة قطع أسباب التنازع قبل تفاقمها، لأن تعدد الطموحات داخل الحكم يُضعف الدولة. وتتقاطع هذه الفكرة مع الإشارة إلى أن “لا مكان لمن يعمل خارج إطار البرنامج الانتخابي”، وهي صيغة تعبّر عن خوف من بروز مراكز قرار متنافسة قبل أوانها.
3. أفلاطون: وحدة القيادة وحدود القانون
في مؤلفه الذائع الصيت "الجمهورية La République " ، يربط أفلاطون بين وحدة القيادة وضرورة خضوعها للقانون، لأن تجاوز القانون يمهّد للفوضى. وهذا الإطار يبيّن التوتر القائم بين الدعوة إلى “انسجام مطلق” وبين مقتضيات النصوص الدستورية المنظمة للعمل السياسي.
4. ماركس وإنجلز: إعادة تشكيل الوعي عبر الخطاب
يعتبر ماركس وإنجلز في "الأيديولوجيا الآلمانية L’Idéologie Allemande " أن السلطة تعيد بناء المجال الخطابي بما يخدم استراتيجيتها. ووصف الانشغال بالترشحات المستقبلية بأنه “مضيعة للوقت” يدخل ضمن هذ "البناء الخطابى construction discursive " الذى يعيد ترتيب الأولويات حول محور الإنجاز.
5. هوبز: مركز القرار الواحد في البيئات الهشّة
ينطلق مؤلف " ليفياثان - وهو العنوان الشهير لأحد أهم الأعمال في الفلسفة السياسية الغربية، الذي كتبه الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (Thomas Hobbes) ونُشر عام 1651 ، و "ليفياثان" (Leviathan) وحش بحري أسطوري ضخم وقوي، مذكور في بعض النصوص الدينية القديمة - من أن غياب سلطة موحدة في مجتمع غير مستقر يقود إلى " حرب الجميع ضد الجميع Guerre de Tous contre Tous ".
وهذا ما يفسّر مركزية فكرة “وحدة العمل الحكومي” في الخطاب.
6. هيغل: الدولة ككلّ عضوي
يرى هيغل أن الدولة “روح تتجسّد”، وأن أي انقسام داخل أجهزتها يهدّد كيانها.
ومن هذا المنظور، يصبح “التشويش على الانسجام” تهديداً مباشراً للتماسك البنيوي للدولة.
7. ماكس فيبر: شرعية الإنجاز مقابل شرعية القانون
يفرق فيبر بين الشرعية القانونية–العقلانية والشرعية الكارزمية. ومن هنا، فإن تحويل الإنجاز التنفيذي إلى مصدر شرعية مستقل عن الدستور قد يؤدي إلى شخصنة السلطة.
المحور الثاني: تحليل بلاغي–سياسي للخطاب الرئاسي
ورد في الخطاب:
«لا مكان بيننا لمن يعمل لأجندة غير تنفيذ برنامجنا الانتخابي… وما يُروّج له البعض من الخلافات كلام غير صحيح…».
1. استراتيجية ضبط الخلافة – Transition Contrôlée
وفق تحليل Levitsky & Ziblatt، تمثل مثل هذه العبارات إحدى أدوات إدارة مسار الخلافة داخل السلطة، وهي جزء مما يسمّيه Ginsburg & Huq “التحكّم الناعم” الذي لا يغيّر النصوص، لكنه يعيد توجيه الأعراف الدستورية.
2. خطاب التنمية – État Développeur
تحويل النقاش السياسي نحو أولوية التنمية، واعتبار الحديث عن الترشحات “إضاعة للوقت”، يدخل ضمن خطاب الدولة التنموية الذي يقدّم الإنجاز الاقتصادي على التعددية السياسية، كما يلاحظ Joel Migdal.
3. صناعة الانسجام داخل النخبة
الربط بين الشائعات و“التشويش على الانسجام” يعكس نمط " التعددية المراقبة Pluralisme Contrôlé " الذي أشار إليه Schmitter & O’Donnell، حيث يتم ضبط تباينات النخبة لمنع تشكل معارضة داخلية.
المحور الثالث: القراءة القانونية – حدود التأويل ومخاطره
1. التوتر بين الإرادة الشعبية والنص الدستوري
الاعتماد المفرط على الشرعية الشعبية خارج إطارها المؤسسي قد يقود إلى ما تصفه Nancy Bermeo بـ " التكوص الدستورى Backsliding Constitutionnel "، وهو إضمحلال تدريجي للدستور دون تعديل لنصوصه.
2. الفرق بين شرعية الإنجاز وشرعية القانون
يحذّر Larry Diamond من أن استبدال الشرعية القانونية بشرعية الأداء التنفيذي يخلق نمطاً من" الديموقراطية المتآكلة Démocratie Dégradée". ويتفق O’Donnell مع هذا الطرح في تحليله لـ "الديموقراطية التفريضي Délégative Démocratie"
3. غياب قنوات الحوار داخل النخبة
يشير Andreas Schedler إلى أن غياب قنوات مؤسسية واضحة لإدارة الخلاف داخل السلطة يؤدي إلى “فراغ معلوماتي Vide informationnel " يُنتج شائعات وتقديرات متضاربة، وهو ما يتقاطع مع قول ابن خلدون إن “المًًًًُلك إذا تشعّبت مسالكه ضَعُف”.
فى الختام
يمكن القول أن الخطاب الرئاسي تموضع عند نقطة توازن دقيقة بين حماية الانسجام المؤسسي – وهو هدف مشروع في الدول ذات البناء المؤسسي المتدرّج – وبين خطر استخدام هذا الانسجام لتقييد النقاش السياسي داخل النخبة.
وتبرز أهمية استحضار الإطارين السوسيولوجي والدستوري في فهم مآلات مثل هذا الخطاب، من ابن خلدون واليونان القديمة إلى النظريات السياسية المعاصرة حول الإنحراف الدستورى Érosion Constitutionnelle و التحول المنظم Transition Contrôlée.
إن تعزيز الانسجام داخل السلطة لا ينبغي أن ينفصل عن احترام مبدأ التداول السلمي للسلطة (Passation Pacifique du Pouvoir)، وهو الضامن الأبرز لاستمرار الدولة واستقرارها ضمن منظومة حديثة تقوم على الشرعية القانونية لا الشرعية الخطابية.
أنواكشوط فى 15 نوفمبر 2025
(م ش)

