سيادة رئيس الجمهورية، إنّ ناقوس الخطر يدقّ… فهل من مجيب؟

 

 

سيادة الرئيس،

 

إنّ ما يعيشه بلدنا اليوم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي لم يعد مجرّد مؤشرات مقلقة يمكن تجاهلها أو تأجيل التعامل معها، بل أصبح مساراً كاملاً ينزلق بنا، خطوةً بعد أخرى، نحو تعميق الأزمات وفتح الباب أمام توترات اجتماعية قد تتحوّل، في أي لحظة، إلى احتجاجات واسعة لا يمكن التحكم في مسارها ولا في مآلاتها.

 

لقد ميّز السياسات الاقتصادية والنقدية في بلادنا، طيلة عقود، قدرٌ من الحذر والواقعية. كانت الحكومات المتعاقبة – رغم المآخذ الكثيرة عليها – تدرك هشاشة الأوضاع المعيشية لغالبية المواطنين، وتعي أنّ أيّ هزّة كبيرة في الأسعار أو انهيار في قيمة العملة الوطنية ستكون كلفته الاجتماعية والسياسية باهظة. لذلك كان يتم التحكم في سعر الصرف بما يحمي الأوقية من الانهيار قدر الإمكان، تجنباً لانفجار الأسعار وتآكل القدرة الشرائية لشريحة واسعة من المواطنين.

 

كما كانت السياسة النقدية تراعي – في حدود معينة – حاجيات البنوك من العملة الصعبة، كي يتمكن الموردون من توفير المواد الأساسية بانتظام في الأسواق. هذا التوازن هو الذي سمح للدولة، في أكثر من مناسبة، بأن تعقد اتفاقات مع أرباب العمل الموريتانيين من أجل خفض أسعار المواد الغذائية الأساسية، فخفّفت بذلك من وطأة تقلبات الأسواق العالمية على المواطنين، خصوصاً الفئات الفقيرة وذوي الدخل المحدود.

 

اليوم، مع الأسف الشديد، نلمس ابتعاداً واضحاً عن هذه الرؤية المتوازنة.

 

فقد تُركت العملة الوطنية تحت رحمة السوق دون ضوابط كافية، فانهارت قيمتها أمام العملات الرئيسية: اليورو، الدولار، والفرنك الإفريقي، إلى مستويات غير مسبوقة منذ نشأتها. هذا الانهيار لم يبقَ مجرّد رقم في تقارير البنك المركزي، بل انعكس مباشرة على حياة الناس:

• أسعار المواد الغذائية في ارتفاع مستمر.

• تكلفة النقل والخدمات ترتفع يوماً بعد يوم.

• الأجور والرواتب مجمّدة أو شبه مجمّدة، فتتآكل قيمتها الحقيقية بسرعة.

 

يضاف إلى ذلك تقييدٌ واضح لحصول البنوك على ما تحتاجه من عملات صعبة، رغم ما يُعلن رسمياً عن وجود احتياطات معتبرة من هذه العملات. هذا النقص في توفير العملة الصعبة ينعكس على الموردين، فيتعطل الاستيراد أو يتقلّص، فتختلّ وفرة السلع في السوق، وترتفع الأسعار أكثر، وتزداد المضاربات، ويتضرّر المواطن أولاً وأخيراً.

 

إنّ ما يثير القلق الأكبر، سيادة الرئيس، ليس فقط صعوبة الظرف، بل غياب رؤية شاملة تدير هذا الوضع المركّب:

• سياسات نقدية ومالية منفصلة عن الواقع الاجتماعي.

• تزايد الاعتماد على وصفات جاهزة تأتي من مؤسسات مالية دولية لا تعيش بين شعبنا ولا تشعر بمعاناته اليومية.

• تغليب اعتبارات تقنية ضيقة على حساب المصلحة الوطنية العليا والانسجام الاجتماعي والسلم الأهلي.

 

إن الخضوع المفرط لإملاءات المؤسسات الدولية، دون مواءمتها مع خصوصيات المجتمع وحاجاته، يعيدنا إلى نفس الأخطاء التي ارتكبتها دول أخرى قبلنا، فدفعت ثمنها اضطرابات اجتماعية عنيفة، وتراجعات اقتصادية حادة، وانقسامات مجتمعية عميقة.

 

سيادة الرئيس،

 

إنّ موقعكم الدستوري والسياسي يجعل من تدخلكم اليوم أكثر من ضرورة، بل يجعل منه واجباً وطنياً لا يحتمل التأجيل. فالمطلوب ليس قراراً تقنياً من هذه المؤسسة أو تلك، بل تصحيح مسار شامل يعيد الاعتبار لدور الدولة في:

1. حماية العملة الوطنية من الانهيار غير المسيطر عليه، من خلال سياسات مدروسة تراعي القدرة الشرائية للمواطن.

2. تأمين حاجات البنوك والموردين من العملة الصعبة حتى يستمر تزويد السوق بالمواد الضرورية، ويُكبح جماح الندرة والاحتكار والمضاربة.

3. إعادة التفاوض حول السياسات المفروضة من الخارج بما يضع مصلحة المواطن والاقتصاد الوطني في المقام الأول، لا في ذيل الأولويات.

4. إقامة حوار صريح ومنظم بين الدولة، والفاعلين الاقتصاديين، والنقابات، وممثلي المجتمع المدني، للاتفاق على حزمة إجراءات تحمي الفئات الهشة وتوزّع الأعباء بعدالة.

 

إنّ التخلي التدريجي عن دور الدولة في ضبط السوق وتوجيه الاقتصاد، وترك الأمور لعوامل السوق الحر في بلد يعاني هشاشة بنيوية، وبطالة متفشية، وفوارق اجتماعية حادة، ليس مجرّد خيار اقتصادي قابل للنقاش، بل هو مغامرة خطيرة بمستقبل الاستقرار.

 

سيادة الرئيس،

 

نحن نعيش في محيط إقليمي مضطرب:

• تنامي الحركات المتطرفة.

• تصاعد خطاب الكراهية ودعاة الفتنة.

• محاولات متكررة لتجييش الأبرياء والزجّ بهم في صراعات عرقية وجهوية لا يمكن التحكم في عواقبها.

 

وفي مثل هذا المناخ، تصبح الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وقوداً جاهزاً لمن يريد الاستثمار في معاناة المواطنين وتوجيه غضبهم نحو مسارات تهدد وحدة الدولة والسلم الأهلي. إنّ الجائع، والمهمَّش، والمحروم من أبسط مقومات العيش الكريم، يكون أكثر عرضة لخطابات التحريض والتطرف والمغامرة.

 

لذلك، فإنّ الاستثمار في الاستقرار يبدأ من الاستثمار في العدالة الاجتماعية وحماية القدرة الشرائية، لا من الاكتفاء بالشعارات أو المؤشرات الورقية. وإهمال هذا الجانب اليوم قد يقود، لا قدّر الله، إلى احتجاجات شعبية واسعة لا يمكن ضبطها، خاصة إذا اختلط فيها الاقتصادي بالاجتماعي، والسياسي بالهوياتي.

 

سيادة رئيس الجمهورية،

 

إننا لا ندقّ ناقوس الخطر من باب التشاؤم أو المعارضة من أجل المعارضة، بل من باب الغيرة على الوطن والخوف على مستقبله. فبلدنا يملك من الطاقات البشرية، والموارد، والموقع الجغرافي، ما يؤهله لأن يكون نموذجاً في الاستقرار والتنمية، لكن ذلك مشروط بوجود:

• رؤية اقتصادية واضحة ومتوازنة.

• دولة قوية وحاضرة في توجيه الاقتصاد وحماية المجتمع.

• قرار سيادي يضع مصلحة المواطن فوق كل اعتبار.

 

إنّ تدخلكم اليوم لوقف هذا الانزلاق وتصحيح المسار هو رسالة طمأنة للشعب، ودليل على أن المؤسسات ما زالت قادرة على الإصغاء لصوت العقل قبل أن يعلو ضجيج الشارع. كما أنه خطوة ضرورية لمنع من يتربص بالوطن من استغلال معاناة الناس لتحقيق أجنداته الخاصة، على حساب أمن البلاد ووحدتها.

 

ختاماً، سيادة الرئيس،

إن التاريخ لا يرحم، والشعوب لا تنسى. وستُسجَّل في الذاكرة الوطنية إما أنكم تدخّلتم في الوقت المناسب لحماية الدولة والمجتمع من منزلق خطير، أو أن النداءات لم تجد من يصغي إليها حتى فات الأوان.

 

والأمل ما زال قائماً في أن يكون خياركم هو الانحياز للمصلحة العليا للوطن والمواطنين، واتخاذ القرارات الشجاعة التي تعيد الثقة، وتخفف المعاناة، وتحصّن البلاد في وجه العواصف القادمة.

مواطن غيور على وطنه مخلص لرئيسه

ثلاثاء, 18/11/2025 - 22:47