إلى رحمة الله يا شمس الدين

يعظم في نفس الإنسان أن يكتشف، في لحظة نضجٍ أو تأمل، أن من رحلوا لم يغيبوا عنه فعلاً؛ بل ماكثون في عقله، حاضرون في رؤيته، ينبضون في طريقته في قراءة الحياة، وتحليل مساراتها ومآلاتها.
حين يدرك الإنسان أن الراحلين تركوا له مهمّاتٍ لم تُنجز بعد، وأنهم أوكلوا إليه مهمة تمثيل قيمهم، وتجسيد مبادئهم، وحمل راية ما كانوا يذودون عنه من شيم وأخلاق… يشعر أن البقاء في هذه الدنيا ليس مجرد عمر يُعاش، بل رسالة تُحمَل.
هكذا كان شمس الدين ولد الحاج أمحمد، أو كما يحب أن يخط اسمه: "شمس الدين ودو"، كما عرفه المعلمون الأوائل وأطر الدولة والمجتمع.
حديث عن رجلٍ لا تختصره كلمة
للحديث عن شمس الدين، لا بد أن يُستحضر المعلم، والمربي، والصديق، والأخ، والأب، والخال، والعم.
حديثٌ يستوجب استحضار كل الروابط التي تجمع البشر: علاقات الدم، وعلاقات الفكرة، والموقف، والمهنة.
فقد كان شمس الدين عقداً من قيم متشابكة، وشبكة من المسؤوليات المتنوعة، وأولويات متزاحمة، وحدودٍ دقيقة تثير حيرة الفقهاء والمربين والفلاسفة، وحتى علماء النفس.
أنا لا أتحدث هنا من باب الادعاء، ولا من منبر التنظير؛ بل أنقل بصدقٍ وأمانة ما عايشته على امتداد أكثر من 45 سنة من القرب الإنساني، و25 سنة من العمل المشترك.
شمس الدين... المعلم
كان شمس الدين ولد الحاج أمحمد معلمًا من طرازٍ فريد. لم تكن دروسه نصوصاً تقرأ، ولا امتحانات تحصد، بل كانت مدارس حياة، فيها يتعلم الأطفال الكرامة قبل الحروف، والصدق قبل الأرقام، وحبّ الوطن قبل الجغرافيا.
لم يكن يعلّمهم الكتابة فقط، بل علّمنا – نحن الأطفال يومها – كيف نسير على الرصيف دون أن نؤذي، كيف نلعب دون أن نفسد، كيف نتحدث إلى الكبار بحكمة، وكيف نُعامل الآخرين برفقٍ وعقل.
كان معلّمًا يعاقب برحمة، ويُكافئ بعدل، لا ينظر فقط إلى التحصيل الدراسي، بل إلى الإنسان النابت في قلب كل تلميذ.
شمس الدين... المدير القائد
حين أصبح مديراً للمدارس العمومية، لم يكن بحاجةٍ إلى أوامر صارمة أو رقابة لصيقة؛ فقد كان حضوره، في حد ذاته، يكفي ليقوم كل معلم بواجبه على أكمل وجه.
كان مديرًا يصنع بيئة تُحِبُّ فيها أن تُنجز، لا بيئة تُجبرك على الإنجاز.
كان المعلم يشعر أنه يعمل مع قائد، لا تحت رئيس.
كان يحفّز، يوجّه، يشرح، يشارك، يعلّم، ويسأل عن هموم الناس قبل أن يقيّم أداءهم.
وكثيرًا ما كان يقول لي:
"المعلم لا يحتاج إلى من يراقبه، بل إلى من يساعده. لا إلى من يعاتبه، بل إلى من يعينه. وهذا، للأسف، ما نفتقده اليوم."
شمس الدين... المفتش الإنسان
حين دلف إلى مهنة التفتيش، كان المفتش شمس الدين وجهاً من وجوه الدعم لا التخويف.
المعلمون كانوا ينتظرونه لا ليُخبئوا نقائصهم، بل ليعينهم على تجاوزها.
كان يأتي ليكون جزءًا من الحل لا أداةً للمحاسبة، يتابع، يوجه، يعين، ويخطّط معهم لطرق النجاح.
كان هدفه الأسمى أن يجعل التفتيش مناسبة للنهوض، لا للحساب.
شمس الدين... المدير الإداري
عندما قاد مصلحة الامتحانات، كنت تحت إشرافه كمتدرب. ورغم صلة القرابة، لم أشعر يومًا أني "ابن أخت المدير"، ولم يشعر أحد بذلك.
أذكر مرة أن جهاز الحاسوب أصدر صوتًا غريبًا. خافت الموظفات، واستدعوا "شمس". جاء وسأل بهدوء: "من فعل هذا؟" فأجابت الموظفة: "أنا".
لم ينهرها. لم يغضب. بل تعامل مع الموقف بحكمة وطمأنينة، تليق بقائدٍ لا يهتزّ لصغائر الأمور، بل يعلّمك أن المسؤولية ليست خوفًا، بل شجاعة وموقف.
شمس الدين... في المعهد التربوي
قال لي أحد زملائه:
"شمس الدين كان يضيء أروقة المعهد بعدله، ومساواته، ومساعدته للناس في قضاء حوائجهم دون تمييز."
شمس الدين... في "مدارس التحدي"
بعد التقاعد، لم يبتعد شمس الدين عن رسالته. أسّس مدارس "التحدي الحاج أمحمد"، أو "شالانج"، وكان معظم طاقمها ممن تتلمذوا على يده، أو زاملوه، أو تعلموا منه.
ما كان يردّ طالبًا، ولا يطرد تلميذًا لعدم دفع رسوم. كان يُعلّم لوجه الله، ولوجه الوطن، ولوجه المبادئ.
كان يعتبر كل تلميذ من تلاميذه ابنًا من أبنائه، يرعاه من الروضة إلى البكالوريا.
شمس الدين... صاحب البصيرة
في موقفٍ لن أنساه، عرض عليّ أحدهم عملاً براتب زهيد، فتحيّرت.
استشرت الخال شمس الدين، فقال لي:
"إذا انتظرت الراتب الكبير لتبدأ العمل، فلن تعمل أبدًا. الراتب الصغير نقطة انطلاق، لا نهاية طريق. كبّره باتقانك، ونمّه بقدراتك."
هذه العبارة بقيت نبراسًا لمشواري المهني.
شمس الدين الإنسان
زاهد في الدنيا، متعفّف عن الناس، لا يطلب سلطة، ولا مالًا، بل كان يبحث عن الإنسان:
كيف يرتقي، كيف يتعلّم، كيف يكون نافعًا لنفسه ومجتمعه.
حتى الأطفال تألموا لرحيله، وقال أحدهم:
"شمس الدين رحل… ولم تتح لي فرصة أن يدرسني."
هكذا، يرحل العظام بهدوءٍ، تاركين خلفهم أثرًا لا يُمحى، وعبقًا لا يُنسى، ورسالة تستمرّ عبر من أحبّهم وأحبّوه.
يرحل شمس الدين، لا إلى الغياب، بل إلى ذاكرة شعب، وعقول أجيال، وأرواح مئات المربين.
إلى رحمات الله يا شمس الدين… إلى رحمات الله.

جمعة, 04/07/2025 - 16:28